ماذا سيبقى من الولايات - الدول الأمريكية متحدة بعد 25 سنة؟ التقارير والمقالات | ماذا سيبقى من الولايات - الدول الأمريكية متحدة بعد 25 سنة؟
تاريخ النشر: 21-11-2017

بقلم: زياد الحافظ
جاء في مقال هام جدّا، يوم الجمعة في 3 تشرين الثاني/نوفمبر 2017، للصديق الأستاذ ناصر قنديل رئيس تحرير صحيفة "البناء" بعنوان مستقبل الجيوش العربية، أن الكيان الصهيوني قلق من التحوّلات في دول محور المقاومة. فهذه التحوّلات تربك الكيان وأن الحرب معه قادمة سواء كان هو البادئ أم لا. ويختم المقال بسؤال وجّهه إلى ثلاث شخصيات قيادية ذات صلة بالعمل العسكري والأمني، وهو هل من تصوّر نهائي لصيغة التسويات في المنطقة؟  ونقتبس منه أنه "كان جوابهم واحدا، كل شيء تقريبا واضح ومحسوم، والذي يؤخّر هو عقدة الإصرار الأميركي على ضمان "امن إسرائيل"، واستحالة الحصول على هذه الضمانة".
استوقفتنا تلك الجملة لأنها مبنية على تقدير اللحظة القائمة دون استشراف ما يمكن أن يحصل في المستقبل. فمنطلق التقييم هو أن الولايات المتحدة الأميركية واقع ثابت لا تغيير فيه في المستقبل القريب أو المتوسط. لا تأخذ هذه التقييمات بعين النظر التراجع في المحافل الدولية. وهذا التراجع في الخارج أسبابه داخلية كما خارجية. في هذه النقطة بالذات، أي الأسباب الداخلية، نعتقد أن ذلك التقييم يغيب عنه عدّة نقاط مفصلية كنّا قد أشرنا إليها في عدد من المقالات والأبحاث. مفاد الأمر أنه هناك مؤشرات جدّية نحو تفكّك أو حتى تشظّي الولايات المتحدة إلى عدة تكتّلات. وتتراوح التكتلاّت الممكن إقامتها بين خمسة أو تسعة مجموعات من الولايات/الدول.
بالمناسبة لا نفهم الإصرار على ترجمة الوحدات المكّونة للجمهورية الأميركية إلى ولايات بينما المصطلح الإنكليزي المستعمل هو "دولة"، أي هناك الدول المتحدة لأميركا (الترجمة الحرفية). فكل "دولة" لها كونغرس مكوّن من مجلس ممثلين أو نوّاب ومجلس شيوخ. وحاكم "الدولة" له صلاحيات شبيها بصلاحيات رئيس الدولة الاتحادية.
في مطلق الأحوال، وبغض النظر عن الجدل حول التسمية، هناك نزعات انفصالية جادة داخل الاتحاد. صحيح أنها لم تصل إلى نقطة اللارجوع ولكنها تسير على خطى تتصاعد وتيرتها مع كل إدارة جديدة تصل إلى الحكم. وإذا لا بد من التذكير بهذه المؤشرات فإنها تعود إلى عدّة عوامل موضوعية وذاتية.
أولى المؤشرات هي التحوّلات في بنية الرأس المالية الأميركية التي كانت ركيزة الاقتصاد الأميركي والتي تلازمت مع بنية سياسية ومؤسسات أنتجتها وحمتها لفترة امتدّت على مدى قرنين من الزمن. فالتحوّل الذي حصل هو تحوّل من رأسمالية إنتاجية أنتجت السلع والخدمات التي صدّرتها للعالم إلى رأسمالية مالية تنتج ثورة افتراضية محصورة بيد القلّة وعلى حساب الطاقة الإنتاجية الفعلية التي خلقت طبقة وسطى تحمي الاستقرار في البلاد. هذا التحوّل أضعف العلاقة مع الدولة-الأمة التي كانت حاضنة الرأسمالية الإنتاجية عبر تهميش وصولاً إلى الإلغاء النسبي للطبقة الوسطى. أما النظام الجديد للرأسمالية المالية فيفرض تجاوز سيادة الدول بما فيها سيادة الولايات/الدول المتحدة في أميركا لصالح الشركات العملاقة المالية والخدماتية. من هنا كانت سياسية إضعاف المؤسسات الدستورية والتراجع عن التشريعات المنظّمة والقيود على التعامل. رافق كل ذلك تفشّي الفساد في مختلف مكوّنات الحكومة وهذا ما سنعرضه لاحقا.
ثانياً: رافق كل ذلك أيضا تغييرات في البنى السكّانية حيث الأكثرية البيضاء الانكلوبروتستنتية تتراجع أكثريتها العددية في عدد من الولايات الجنوبية الغربية للدولة الاتحادية لمصلحة أكثرية منحدرة من أصول اسبانية وكاثوليكية. وهذه الولايات/دول تضم كل من تكساس وكولورادو ونيومكسيكو واريزونا وجنوب كاليفورنيا، وهي دول وازنة سكّانيا واقتصاديا وجغرافيا. الإحصاءات السكّانية تشير إلى أن السكّان المنحدرين من أصول اسبانية أصبحوا الأكثرية في المدن الكبرى والولايات/الدول الأميركية في الجنوب الغربي. ويتوقع المراقبون أن عدد السكّان البيض في كافة البلاد لن يتجاوز الخمسين بالمائة عام 2040، أي فقدان الأكثرية البيضاء. فكل هذه التحوّلات السكانية إن لم يتم استيعابها بشكل هادئ فستهدّد تماسك المجتمع الأميركي. هذا ما يدفعنا إلى القول إن النظام السياسي القائم في الولايات/الدول المتحدة الأميركية لم يعد قادرا على مواكبة تلك التطوّرات. فحكم المال هو المسيطر على الحياة السياسية الأميركية سواء عند الجمهوريين أو عند الديمقراطيين. وبالتالي فإن الأقلّيات في الولايات/الدول عاجزة، حتى الآن وفي المدى المنظور، عن أن تحصل على حصّتها من "الحلم الأميركي" بشكل يعكس تلك التحوّلات.
كما أن مكوّنات المجتمع الأميركي مهدّدة بالمزيد من التفكّك بسبب تفكّك الأسرة، الوحدة الأساسية لأي مجتمع. نذكر هنا أن تعداد السكّان الذي يحصل في بداية كل عشرية أوضح أن في عامي 2000 و2010 شهدت البنية الأسرية تحوّلات خطيرة تنذر بتفكّك المجتمع الأميركي. هذه الإحصاءات تشير إلى أن أكثر من خمسين بالمائة من الوحدات السكّانية التي يوجد فيها أطفال تفتقد إلى أحد الأبوين، وفي غالبية الأحوال إلى الأب أو ربّ العائلة. وبالتالي لا عجب من مظاهر تفكّك العائلة تفشّي المخدّرات وعدم إكمال السنوات الدراسية وإنجاب الأطفال خارج الإطار الأسري.
ثالثاً: من جهة أخرى هناك العنصرية المتفشية والتي لم يعد لها، على ما يبدو، من كوابح. تشير الإحصاءات الأخيرة أن أكثر من 1000 شخص من السود الأميركيين قتلوا علي يد الشرطة وذلك في الثمانية الأشهر الأولى من عام 2017، أي أكثر من ضحايا عمليات "الإرهاب" التي تزعم القيادات الأميركية أنها تحاربها في الولايات/الدول المتحدة وفي الخارج، بينما الإرهاب الرسمي إذا جاز الكلام يزداد يوما بعد يوم فيها.
ومن الدلائل على أن العنصرية ظاهرة بنيوية وليست ظرفية إحصاءات المسجونين في الولايات/الدول المتحدة الأميركية وفقا لتقرير صدر في 14 آذار/مارس 2017 عن موقع "بريزون بوليسي انيشياتيف" أي المبادرة السياسية للسجون. فعدد المسجونين يتجاوز 2،3 مليون شخص وهو رقم قياسي في العالم. عدد السجون، من اتحادية، أو في الولايات، أو في المدن عام ،2017 وصل إلى 7461 سجن!  نسبة المعتقلين السود هي 40 بالمائة بينما النسبة السكانية للسود في البلاد هي 13 بالمائة فقط. أما المنحدرون من أصول اسبانية، أي "اللاتينو" فنسبتهم السكّانية في الولايات/الدول المتحدة 16 بالمائة في البلاد بينما نسبة المسجونين توازي تقريبا نسبة السود (39 بالمائة). أي هناك انحياز في النظام الجزائي الأميركي ضد السود واللاتينو. فلا عجب أن الثقة أصبحت مفقودة مع السلطة عند الأقلّيات كما أن قوى الأمن تزداد تشدّدا وعنصرية تجاه الأقلّيات. لكن مجموع الأقلّيات لن يدوم "أقلّية" في مستقبل ليس بالبعيد فكيف ستواجه النخب الحاكمة ذلك الوضع؟  هذا ما أشار إليه سامويل هنتنغتون عن الخطر الذي يهدّد الأكثرية (الآن) الانكلوساكسونية البروتستنتية البيضاء.
كما لا يمكن أن يغيب عن بالنا تصريحات المرشّح ترامب المعادية للاتينو اتهمهم باللصوص والمغتصبين. تفيد الدراسات عن الموضوع أن ترامب كان يعبّر عن مشاعر العديد من الأميركيين البيض الذين انتخبوه في آخر المطاف. تأتي من بعدها أحداث شارلوتفيل في ولاية/دولة كارولينا الجنوبية والاشتباك العنصري الذي حصل بين متطرّفين من البيض ومعارضيهم من السود والبيض. تصريحات الرئيس ترامب التي تبرّئ أو تتعاطف مع العنصريين البيض كانت بمثابة رمي المزيد من الزيت على النار. تصريحات مدير مكتب الموظفين في البيت الأبيض جون كيلي في تبرير الحقبة العنصرية في القرن التاسع عشر دليل آخر على أن العنصرية ظاهرة بنيوية موجودة في كافة أروقة الحكم.
رابعاً: وهذا ما يقودنا إلى مشكلة جوهرية هو تفاقم الفجوة في اللامساواة بين مكوّنات المجتمع الأميركي. حركة "احتلال وال ستريت" أو حركة مناهضة "الواحد بالمائة" الذي يسيطر على ثروات البلاد ناتجة عن الشعور بعدم إمكانية ردم فجوة اللامساواة عبر المؤسسات الدستورية. فاللجوء إلى الشارع مؤشر عن الأفق المسدود عند من يطالب بتحسين الأوضاع عبر المؤسسات. في سياق اللامساواة يفيد الاقتصادي الفرنسي توماس بيكتي صاحب المؤلف الشهير عن اللامساواة في العالم أن نسبة الواحد بالمائة من الأثرياء يفوق دخلهم السنوي 1،3 مليون دولار حتى آخر 2016 بينما كان متوسط الدخل لتلك الفئة لم يتجاوز 423،000 دولار سنويا في مطلع الثمانينات، أي حوالي ثلاث أضعاف عما كان عليه الوضع. بالمقابل فإن طبقة الخمسين بالمائة السفلى من المواطنين ما زالوا يتقاضون ما يوازي 16،000 دولار سنويا وذلك منذ الثمانينات. كما أن احتمال الأطفال في هذه الأيام في تحقيق "الحلم الأميركي" تراجع من نسبة 90 بالمائة في الأربعينات في القرن الماضي إلى أقل من 50 بالمائة في العقد الثاني من الألفية الثالثة، أي أن طفلا فقط من أصل طفلين قد "ينجح" بالنيل من حصّته في "الحلم الأميركي".
خامساً: فقدان الثقة بتحقيق الحلم الأميركي له تداعيات كبيرة منها تماسك المجتمع رغم كل المصاعب. فما كان ممكنا في حقبات سابقة في مواجهة تحدّيات ومخاطر قد لا يعود ممكنا. فالنزاعات الانفصالية في تصاعد وهذا ما وجدناه في الخطابات السياسية لعدد من القيادات السياسية التي هدّدت ويمكن أن تهدّد في المستقبل بالدعوة إلى الانفصال. هذا هو جوهر خطاب ريك بري، وزير الطاقة الحالي في إدارة ترامب، والحاكم السابق لولاية/دولة تكساس حيث هدّد أكثر من مرّة بانفصال تكساس إذا ما استمرّت الحكومة الاتحادية بالتدخّل في شؤون الولاية/الدولة. كما لا بد من الإشارة أن في كل استحقاق انتخابي للكونغرس الأميركي هناك محاولات في عدد من الولايات/الدول لطرح انفصال ولاية/دولة عن الدولة الاتحادية. لم تصل تلك المحاولات إلى نقطة اللارجوع إلاّ أنها في تنام مستمر يدعمها أيضا وجود ميليشيات تزداد عددا وعتادا. المسألة هي مسألة متى وليست مسألة إذا رغم كل التطمينات التي تظهر ما يدّل على وجود تلك النزعات وإلا لما كان من الضروري نفيها.
من أسباب الترهّل في البنية السياسية حكم المال والفساد. فبسبب المال تمّ تمركز الاعلام الأميركي بكافة اشكاله من صحف ومجلاّت ومحطات راديو وتلفزيون إلى استديوهات السينما إلى شركات مالكة له لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة بينما كانت في مطلع الثمانينات من القرن الماضي أكثر من خمسين شركة. لم يعد هناك تعدّد للآراء كما أنه يتم السكوت عن القضايا الأساسية لتي تهم المجتمع الأميركي والتي هي من صنع الشركات العملاقة والمجمّع المالي العسكري الصناعي. والتوجّه الحالي للاعلام هو نحو المزيد من اللبرلة الاقتصادية التي هي القاعدة الفكرية للعولمة التي تتجاوز الأوطان وتتناقض مع السيادة الوطنية.
وبسبب المال تمّ شرعنة الفساد المالي في الانتخابات عبر قرار من المحكمة الدستورية العليا في حكم شهير ومشين عام 2010 اعتبرت فيه أن الإنفاق المالي وسيلة من بين وسائل التعبير التي يصونها الدستور الأميركي. لذلك أصبح المرشّح لأي منصب حكومي، سواء على المستوى المحلّي أو الاتحادي مدينا بوجوده في المنصب إلى من موّله أو قد يموّله في الاستحقاق الانتخابي التالي. إفساد القضاء من إفساد العملية السياسية وهذا ما ينذر بالانهيار الكبير حيث المبادئ وحكم القانون أصبح مجرّد "وجهة نظر" قانونية يمكن نقضها في أي وقت كان إذا ما أرادت ذلك الجهات صاحبة المال والنفوذ.
ومع تمركّز الإعلام في يد القلّة المسيطرة تتزايد معالم الفساد في كافة المجالات حيث إمكانية المحاسبة والمسائلة تصبح مهمّشة إن لم تكن معدومة إذا ما تعارضت مع مصالح الشركات التي تملك الإعلام. وبالتالي يصبح الفساد في سلوك الشخصيات القيادية مادة لإلهاء المواطن، وذلك لتدمير أي ثقة بقائد أو مُصلح. فالإعلام المهيمن مليء بفضائح جنسية للشخصيات البارزة سواء في الاعلام أو في السينما ناهيك عن عالم السياسة والاقتصاد. والفساد الأخلاقي أصبح "ميزة" في السلوك للنخب الأميركية صاحبة القرار، وربما شرط ضرورة للوصول إلى المنصب ولكن بشكل ضعيف أو قابل للرضوخ لمختلف الضغوط. نذكّر هنا بالفساد الأخلاقي للرئيس السابق بيل كلنتون فكان من ساهم في تفكيك القيود المنظّمة للمؤسسات المالية التي انطلقت بعد ذلك في إنتاج الثروات الافتراضية. أما زوجته هيلاري المرشّحة الفاشلة (مرّتان) في الانتخابات الرئاسية فإنها تواجه هذه الأيام عاصفة الفضيحة في قيادة الحزب الديمقراطي وكيف تمّ استعمال أموال الحزب لإقصاء منافسها للتسمية الرئاسية برني سندرز، ولترتيبات ملفّات مزيّفة بحق منافسها دونالد ترامب. كما أن الأخير يواجه حملات تنتقد صفقاته مع روسيا قبل الانتخابات وخلال الانتخابات الرئاسية إضافة إلى التستّر عن كشف حساباته والضرائب المفروض أن يدفعها للخزينة الأميركية. أما الرئيس السابق باراك أوباما فيتبيّن اليوم أنه كان رجل المؤسسات المالية الذي لم يلاحق المسؤولين عن الفضائح المالية والخسارات الباهظة في أزمة الرهونات العقارية. وتشير وسائل الاعلام بأنه يتقاضى اليوم مبالغ خيالية قد تصل إلى 400 ألف دولار لإلقاء محاضرات تدفعها المؤسسات المالية. هذا نوع من الرشوة المؤجّلة لخدمات مسلّفة من قبل الرئيس السابق.
لذلك نعتبر إن التردّي المزمن والمستمرّ في مستويات القيادة والنخب الحاكمة أو الطامحة للحكم ينذر بعدم قدرة مطلوبة على مواجهة التحدّيات التي تواجه الولايات/الدول الأميركية المتحدة.
هذا لا يعني أن أميركا ليست لديها مصادر قوة، غير أنها في تراجع:
أولاً: أحد مصدر قوة الولايات/الدول المتحدة في أميركا القوّات المسلّحة، أو على الأقل هذا ما يتمّ ترويجه في مختلف وسائل الإعلام الأميركية وغير الأميركية. صحيح أن القوّة النارية كبيرة تستطيع تدمير المعمورة آلاف المرّات لكنها عاجزة عن صرفها في السياسة. لم تربح الولايات المتحدة أي حرب مع خصم وازن، بل خسرت ضد من كان أضعف منها على الورق ككوريا الشمالية في أوائل الخمسينات أو الفيتنام في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. لم تفلح في أفغانستان ولا في العراق ولا في الصومال ولا في لبنان ولا في اليمن ولا حتى في سورية. تستطيع أميركا أن تقتل وتدمّر ولكنها لا تستطيع أن تنتصر إلاّ في المسلسلات والأفلام الهوليوودية. جهوزية القوّات المسلّحة لخوض حرب طويلة المدى أمر مشكوك فيه كما تصرّح القيادات العسكرية الأميركية في جلسات الاستماع في الكونغرس الأميركي (شباط/فبراير 2017).
ثانياً: المصدر الثاني لقوّة أميركا هي سيطرتها على شرايين المال في المبادلات الدولية. لكن ما تقوم به دول البريكس وخاصة كل من الصين وروسيا سيخفّض من هيمنة الدولار وبالتالي السيطرة على الشرايين المالية وذلك في فترة لن تكون طويلة كما يتصوّره البعض. لكن حتى الآن تستطيع أميركا أن ترعب وترهب دولا صغيرة وضعيفة سياسيا كلبنان ولكن ذلك الضعف ليس مطلقا بل نسبيا. ومحدودية الترهيب الأميركي مرتبطة بحكمة خصومها في لبنان والمنطقة. الأيام والأسابيع المقبلة ستشهد مواجهات بين أميركا وحكومة الرياض من جهة والمقاومة ومحورها. الوضع خطير ولكن غير مقلق كما يتوهّم البعض. في النهاية السلبية تجاه لبنان ستدفع إلى تزايد نفوذ الجمهورية الإسلامية وروسيا والصين وذلك على حساب أميركا وحكومة الرياض ومن يدور في فلكهما.
ثالثاً: أما الاقتصاد الأميركي الذي ما زال حجمه من أهم الأحجام الاقتصادية في العالم غير أن بنيته الإنتاجية في تراجع. فسياسات العولمة المتبعة منذ سبعينات القرن الماضي أدّت إلى إعادة توطين الصناعات خارج أميركا إضافة إلى استبدال القطاع الخدماتي والمالي بالاقتصاد الإنتاجي. فالبطالة متزايدة رغم الإحصاءات غير الدقيقة التي تنشرها الحكومة الأميركية. فالمرشّح ترامب نقض تلك الإحصاءات التي كانت تروّج لها إدارة أوباما بأن مستوى البطالة انخفض إلى حوالي 5،5 بالمائة بينما أدّعى ترامب أن مستوى البطالة أكثر من 12 بالمائة وفي بعض الأماكن وصل إلى 20 بالمائة. طريقة احتساب البطالة المعتمدة هي طلبات تعويض عن فقدان العمل. لكن هذه الطلبات مدّتها محدودة وانخفاض الطلبات لا يعني انخفاض البطالة التي ما زالت مخفية وغير معلنة رسميا.
رابعاً: تراجع مستوى التعليم وخاصة في العلوم والرياضيات في المدارس الثانوية (انحدار إلى مرتبة 17 في العالم عام 2016) ينذر بتراجع قدرة الابداع العلمي. وإذا كانت أميركا الرائدة في الإبداع التكنولوجي إلاّ أنها لم تعد الوحيدة في العالم. فدول الشرق الآسيوي أصبحت تنافسها بشكل جدّي لها بل يمكن القول إن المعرفة لم تعد حكرا على الغرب وعلى الولايات/الدول المتحدة في أميركا بل عادت إلى الشرق مصدرها الأول تاريخيا.
هذه بعض العوارض التي تنذر بضعف الولايات/الدول المتحدة في أميركا، أو على الأقل ما يوجب عدم المبالغة بقدرتها في تغيير المعادلات التي تحصل خارجها وبعيدا عن إرادتها كما يحصل في الشرق ومجوعة البريكس ومحور المقاومة. كل ذلك ممكن تجاوزه اميركيا لو كانت النخب الأميركية متحرّرة من قبضة المال الذي أصبح يسيطر على المؤسسات الفكرية كالجامعات ومراكز الأبحاث ومؤسسات الدولة العميقة والأمنية. فالمطلوب الآن من قبل النظام القائم شخصيات لا تستطيع "تجفيف" المستنقع فمن يحاول ذلك يتّم الضغط عليه للإطاحة به حتى يرضخ كما يحصل الآن مع ترامب أو يتم اغتياله كما حصل مع الرئيس جون كندي كما بدأت تظهره وثائق وكالة المخابرات المركزية التي أفرج عنها منذ بضعة أسابيع.
عودة إلى مطلع المقال، فلا نرى لماذا الإصرار على انتظار "ضمانة أمن الكيان الصهيوني" من قبل الولايات/الدول المتحدة الأميركية؟  ألم يصبحوا أوهن من بيت العنكبوت رغم كل مظاهر القوّة؟

تنويه | المقالات المنشورة في الموقع تمثل رأي صاحبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي أسرة الموقع

جميع الحقوق محفوظة لموقع جامعة الأمة العربية © 2021 - 2013