الثوب النسائي السوداني... موروث ثقافي لم تحرقه الحرب المجلس التراثي | الثوب النسائي السوداني... موروث ثقافي لم تحرقه الحرب
تاريخ النشر: 18-11-2025

بقلم: اسراء الشاهر - صحفية

تجاوز دوره حدود الملبس ليصبح تعبيراً عن الانتماء والمقاومة ويعيد صياغة حضور المرأة داخلياً وخارجياً



الثوب السوداني مكوّن أساسي في الذاكرة الثقافية والهوية الوطنية يرتبط بمفهوم الأنوثة السودانية والاحترام الاجتماعي (اندبندنت عربية - حسن حامد)

ملخص
رغم التغيرات المتسارعة في عالم الأزياء واندفاع الموضة العالمية، لا يزال الثوب السوداني يحافظ على مكانته وسط هذا الزخم، متكيّفاً مع روح العصر دون أن يفقد جوهره التقليدي، فقد أدخلت المصممات الشابات لمسات عصرية على الأقمشة والألوان، من دون المساس بالشكل العام الذي يمنحه تفرّده وهيبته.
رغم ما يمر به السودان من حرب ونزوح وتحوّلات قاسية، لا يزال الثوب السوداني صامداً كواحد من أبرز رموز الهوية والأنوثة في الذاكرة الجماعية، إذ تجاوز دوره حدود الملبس ليصبح تعبيراً عن الانتماء والمقاومة، وواجهةً ثقافية تعيد صياغة الحضور النسوي في الفضاء العام، وظل هذا الثوب شاهداً من شوارع الخرطوم إلى منصات العرض في الغربة على التمسك بالجذور في وجه الحداثة المتسارعة والعزلة القسرية.
وبينما تتهاوى سبل العيش وتشتد الأزمات، تواصل آلاف النساء السودانيات العمل في خياطته وتطريزه، ليبقى خيط الأمل متصلاً بين الوطن والمنفى.
هوية متجذرة
يقول الباحث في قضايا الهوية السودانية عبد الرحيم بدرالدين أن، "الثوب السوداني يعد أكثر من مجرد زيّ تقليدي، فهو مكوّن أساسي في الذاكرة الثقافية والهوية الوطنية، إذ ارتبط منذ قرون بمفهوم الأنوثة السودانية والاحترام الاجتماعي، وأصبح رمزاً للكرامة والانتماء، وتختلف ألوانه ونقوشه من إقليم إلى آخر، حاملةً دلالات عن البيئة والمكان والطبقة الاجتماعية".
وتابع بدرالدين "هذا الثوب ليس مجرد قطعة قماش، بل هو وثيقة اجتماعية وثقافية تعبّر عن تاريخ المرأة السودانية وتحولاتها عبر الزمن، فحين ننظر إلىه نقرأ من خلاله طبقات من التاريخ، من ممالك كوش القديمة إلى الحقب الحديثة، فهو حافظ لذاكرة المكان والناس، ومؤشر على توازن المرأة بين الأصالة والتطور".


خياطته وتطريزه تبقى خيط الأمل بين الوطن والمنفى (اندبندنت عربية - حسن حامد)

ويرى الباحث السوداني أن "استمرار حضور الثوب رغم تغير الذائقة والظروف الاقتصادية يشير إلى وعي جمعي بأهميته الرمزية، كما أن تمسّك النساء به ليس فقط من باب العادة أو الجمال، بل لأنه يعبّر عن هوية جماعية في وجه محاولات الذوبان في أنماط موضة عابرة، بهذا المعنى، يتحول الثوب السوداني إلى سجلّ حيّ يحفظ ملامح المجتمع، ويجسّد في الوقت ذاته مفهوم الهوية المقاومة التي تتشبث بجذورها، مهما عصفت بها رياح الحداثة أو الاغتراب".
خريطة بصرية
من جانبها تشير الباحثة في التراث الثقافي السوداني سامية طه إلى أن، "الثوب السوداني ليس مجرد مظهر جمالي، بل بنية رمزية تعبّر عن قيم المجتمع وتحوّلاته"، وأضافت "الثوب كان دائماً أداة تواصل بين الأجيال، فالفتاة التي ترتديه اليوم تُعيد إنتاج ذاكرة أمها وجدتها بطريقة عصرية، لكنها في الجوهر تحافظ على الخيط ذاته الذي يربط النساء السودانيات عبر الزمن".
وزادت الباحثة "اختيار الألوان والزخارف لم يكن عشوائياً في يوم من الأيام، فكل منطقة في السودان تحمل طابعاً خاصاً يظهر في أقمشة الثوب، من الألوان الزاهية في الشمال إلى النقوش التراثية في الغرب والشرق، وهو ما يجعل الثوب خريطة بصرية لهوية البلاد المتنوعة".
وختمت طه بالقول "الحفاظ على هذا الزيّ ليس مجرد حنين إلى الماضي، بل فعل وعيٍ ثقافيّ يواجه التماثل القسري الذي تفرضه العولمة، ويعيد للمرأة السودانية مكانتها بوصفها حاملة للذاكرة الوطنية".
مواجهة الحداثة
رغم التغيرات المتسارعة في عالم الأزياء واندفاع الموضة العالمية، لا يزال الثوب السوداني يحافظ على مكانته وسط هذا الزخم، متكيّفاً مع روح العصر دون أن يفقد جوهره التقليدي، فقد أدخلت المصممات الشابات لمسات عصرية على الأقمشة والألوان، من دون المساس بالشكل العام الذي يمنحه تفرّده وهيبته.
وتوضح مصممة الأزياء السودانية رزان عبد القادر أن "الثوب السوداني تطوّر كثيراً خلال العقدين الأخيرين، إذ بدأت النساء يفضلن الأقمشة الخفيفة والألوان الهادئة، مع الحفاظ على طريقة اللفّ التقليدية التي تمنحه طابع الوقار والأنوثة"، وأردفت "هذا التوازن بين الأصالة والتجديد هو ما جعل الثوب يستمر، في وقت تلاشت فيه كثير من الأزياء التراثية في بلدان أخرى".
وواصلن عبد القادر "هذا التطور يعكس وعي المرأة السودانية بذاتها وبصورتها أمام العالم، فالثوب أصبح اليوم لغة ثقافية، تعبّر من خلالها النساء عن انفتاحهن على العالم مع احتفاظهن بملامحهن المحلية، وهذا يثبت بأن الثوب السوداني ليس مجرد زيّ من الماضي، بل كائن حيّ يتجدّد مع كل جيل، ويواجه الحداثة بمرونته دون أن يتنازل عن روحه الأصيلة".
رمز مقاومة
الباحث في علم الاجتماع الثقافي الطاهر الحسن قال "الثوب السوداني لم يكن يوماً مجرد مظهر اجتماعي، بل تحوّل في لحظات فارقة من تاريخ البلاد إلى أداة تعبير سياسي ورمز للمقاومة، فخلال ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، شكّل حضور النساء في الشوارع مشهداً استثنائياً، حيث ظهرت الناشطة آلاء صلاح وهي ترتدي ثوباً أبيضاً تقليدياً لتصبح صورتها وهي تهتف وسط الجموع أيقونة عالمية للثورة السودانية ووجهاً رمزياً لصوت المرأة في النضال من أجل الحرية".

تجاوز الثوب دوره الجمالي ليصبح راية للمقاومة السلمية (اندبندنت عربية - حسن حامد)

واستطرد الحسن "الثوب الأبيض الذي ارتدته آلاء صلاح لم يكن صدفة، بل امتداداً لذاكرة المقاومة النسوية في السودان، إذ ارتدت النساء الثوب ذاته في مظاهرات سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين الماضي ضد الأنظمة العسكرية"، ولفت إلى أن “الثوب الأبيض تحديداً يحمل دلالات الطهارة والسلام والكرامة، وقد استخدمته النساء كوسيلة لتأكيد أن مطالبهن لا تنفصل عن قيم المجتمع ولا عن رموز الوطن".
ومضى الباحث في علم الاجتماع الثقافي في القول إن "اللحظة التي وقفت فيها آلاء على السيارة، مرتدية ثوبها الأبيض، اختصرت قرناً من الحضور النسائي في المجال العام، ورسّخت صورة المرأة السودانية بوصفها قائدة وليست تابعة بهذا المعنى، تجاوز الثوب دوره الجمالي ليصبح راية للمقاومة السلمية وصوتاً بصرياً يعبر عن إرادة النساء في التغيير"، مؤكداً أن "الأزياء يمكن أن تكون سلاحاً رمزياً في مواجهة القمع والنسيان".
قيمة تاريخية
في القاهرة، كان عرض الأزياء الأخير للمصممة السودانية زينب النور حدثاً لافتاً، إذ كشفت عن مجموعة من الأثواب المزدانة بالذهب والألماس، في هذا الصدد تقول مصممة الثياب أميرة عبدالسلام، إن "الفكرة لم تكن استعراض ثراء، بل تكريم لرمز من رموزنا الثقافية، وعندما نرصّع الثوب بالذهب أو الألماس، فنحن لا نحاول تحويله إلى سلعة فاخرة بقدر ما نحاول أن نقول إن هذا الزيّ يحمل قيمة لا تُقدّر بثمن، قيمة التاريخ والذاكرة".
وأضافت عبدالسلام "الثوب السوداني ظل لعقود محصوراً في الفضاء المحلي، لكننا اليوم نعيد تقديمه في سياق عالمي، لنقول إن للمرأة السودانية حضوراً أنيقاً ومعبّراً عن هويتها أينما كانت، الذهب في الثوب يرمز إلى النقاء والثبات، والألماس إلى الصمود والقدرة على التألق حتى في العتمة، وهي معانٍ تتقاطع مع واقع النساء السودانيات في الغربة".
فعل ثقافي
في السياق أفاد المصمم والباحث في التراث هاشم الصافي أن "هذه التحولات تمثل ولادة جديدة للثوب السوداني، فالعروض التي تقام في القاهرة أو دبي أو الدوحة وغيرها لا تُقدَّم من باب الرفاهية فقط، بل هي فعل ثقافي وسياسي أيضاً، لأنها تضع الزي السوداني في واجهة المشهد العربي والعالمي، وحين يُعرض الثوب المرصّع بالألماس على منصة دولية، فإن الرسالة أبعد من الجمال، فهي تقول إن السودان رغم جراحه، لا يزال حيّاً بثقافته، وإن المرأة السودانية لا تزال تمثل وجهه المضيء".
لكن في المقابل، لا يرى الجميع هذا الاتجاه نحو الفخامة في مصلحة رمزية الثوب أو واقعيته، إذ تعتبر الباحثة في قضايا المرأة ناهد عمر أن "ترصيع الثوب بالذهب والألماس في هذا التوقيت تحديداً يحمل مبالغة لا تتناسب مع الواقع القاسي الذي تعيشه آلاف النساء في الداخل".
وتابعت عمر "بينما تكافح نساء السودان اليوم لأجل البقاء في ظل الحرب والنزوح وانعدام الأمن، تبدو عروض الأزياء الفاخرة وكأنها تبتعد عن روح الثوب الأصلية، الذي كان دوماً رمزا للكرامة والبساطة والقدرة على التحمّل، لا للترف والمظاهر".


جميع الحقوق محفوظة لموقع جامعة الأمة العربية © 2021 - 2013