اليوم يمكن القول أن الإنترنت تحيط بنا في كل مكان، فالجميع يستخدم الهواتف الذكية والحواسيب بأنواعها طوال الوقت، ولم يعد هناك جهاز ذكي لا يتصل بالإنترنت تقريباً، وحتى الأشياء التي لا يخطر بالبال كونها تحتاج للأمر باتت متاحة مع قدرة على الاتصال بالشبكة العالمية بداية من أجهزة التلفزيون وحتى البرادات وأقفال الأبواب في بعض الحالات، لكن على الرغم من صعوبة تخيل الأمر، فالحياة لم تكن دائماً هكذا، وفي التسعينيات كانت الأمور مختلفة للغاية.
مع مطلع التسعينيات كانت الإنترنت قد أكملت قرابة عقدين من العمر في الواقع، حيث ظهرت بأشكالها الأولية مع نهاية الستينات وتطورت عبر هذه السنوات، لكن إنترنت تلك الحقبة كانت مختلفة تماماً وغير مستخدمة إلا على نطاقات ضيقة جداً. كل ذلك تغير مع ظهور الويب عام 1993 (مع كونها اخترعت في الواقع عام 1989) ومن ثم الانفجار الغير مسبوق في عالم التكنولوجيا والذي رفع أسهم الشركات التقنية إلى الفضاء قبل أن يحطمها إلى الأرض مجدداً مع مطلع الألفية.
لماذا ظهرت فقاعة دوت كوم (أو فقاعة الإنترنت) أصلاً
في المراحل الأولى من الإنترنت، كانت هذه الشبكة الكبيرة من الوصلات بين الحواسيب إنجازاً عظيماً بالنسبة للبحث العلمي وبالأخص الجامعات، فقد كانت وسيلة سريعة وممتازة لتبادل المعلومات بسرعة دون الحاجة للطرق التقليدية في الاتصال، لكن الإنترنت حينها كانت معقدة أكثر بكثير من أن تستخدم من قبل الأفراد، ومع ظهور الويب والمتصفحات في التسعينيات تغير هذا الأمر بسرعة وسرعان ما نمت الشبكة إلى أضعاف حجمها السابق بسرعة كبيرة.
مع الإقبال السريع للغاية على الإنترنت سرعان ما تضخمت شركات التقنية الموجودة حينها بفعل هذا النمو، حيث حققت Microsoft نجاحات هائلة مع الاستثمارات المتزايدة فيها، وتحولت شركة AOL (اختصاراً لـ America On-Line) إلى أكبر شركة في العالم، وكما هو متوقع فقد ظهرت آلاف الشركات الجديدة والناشئة والتي تعتمد على الإنترنت بشكل أو بآخر، ومع كون الشركات التقنية تلاقي نجاحات كبرى فقد سارع المستثمرون لدعم أي شركة تعتمد الإنترنت بغض النظر عن مدى منطقية عملها.
الحال في التسعينيات كان أشبه بجنون الذهب الذي أصاب المهاجرين في القارة الأمريكية ودفعهم للسفر غرباً نحو كاليفورنيا، وتماماً كما حالة جنون الذهب فما هو متوقع لم يكن مطابقاً لما هو حقيقي. تذكر فقط أن الإنترنت اليوم ممولة بشكل شبه كامل من الإعلانات أو من التجارة الإلكترونية، لكن في التسعينيات كانت الإعلانات محدودة جداً كما أن أي وسيلة دخل حالية كانت أمراً مستقبلياً تماماً مقارنة بالإمكانيات الضعيفة للإنترنت في ذلك الوقت.
انفجار الفقاعة وأسبابه
عندما يقوم أي شخص كان باستثمار مبلغ مالي في أي شيء، فهو إما يتوقع ربحاً فورياً وسريعاً، أو ينتظر أرباح لاحقة لكن كبيرة جداً بحيث تعوض سنوات تجميد المال ضمن الاستثمار، ومع كون الويب كان لا يزال في سنواته الأولى خلال التسعينيات فقد كانت الغالبية العظمى من المستثمرين تتوقع أرباحاً لاحقة لكن كبيرة للغاية مع تضخم الشركات التي استثمروا فيها ونموها، لكن الأمر كان يعاني من خلل كبير جداً: نمو التقنية لم يكون قوياً كفاية ليواكب نمو الاستثمارات.
بالوصول إلى مطلع الألفية كانت الكثير من الشركات الناشئة في عصر الإنترنت قد بدأت تعاني بشدة من حيث الأرباح، فالأرباح المتحققة كانت أقل بكثير من المطلوب للاستمرار أو حتى النمو، وواحد من أفضل الأمثلة هنا هو شركة Pets.com التي بدأت العمل مطلع عام 1999 لكنها انهارت تماماً مع نهاية عام 2000 متسببة بتلاشي مليارات الدولارات حينها ومشكلة وجه الكارثة بسبب شهرتها الكبرى في ذلك الوقت.
انهيار شركة Pets.com وعدة شركات مشابهة نهاية عام 2000 لم يكن سبباً في الواقع بقدر ما كان نتيجة متوقعة حيث وجد الكثير من المستثمرين أنفسهم مع خسائر كبيرة بدلاً من الأرباح الموعودة، لذا فقد حاولوا التعويض بسرعة ببيع حصصهم في الشركات التقنية الأخرى التي بدورها بدأت تفقد قيمتها بسبب ازدياد العرض مقابل الطلب، وسرعان ما بدأ الجميع بالهروب من استثماراتهم في الشركات التقنية مع إدراك الجميع أنها سفينة غارقة لا محالة.
بالوصول إلى نهاية عام 2001 كانت السوق العالمية قد تضررت بشكل كبير جداً جراء هذه الموجة من هروب المستثمرين، حيث تقدر الخسائر المباشرة حينها بحوالي 5 ترليون دولار، ومع أن الضرر كان أقل من أزمة عام 2008 الاقتصادية مثلاً، فقد كان كبيراً كفاية ليرجع التقنية سنوات إلى الخلف ريثما تتمكن من العودة لكسب ثقة المستثمرين مجدداً.
أهم ضحايا الفقاعة
مع انهيار الفقاعة حينها يقدر بأن أكثر من 50% من الشركات التي تعتمد التقنية والإنترنت في عملها كانت قد أصبحت خارج العمل تماماً، لكن النصف الآخر لم يكن بحالة جيدة حقاً وتعرض بدوره لخسائر هائلة بعضها تم تعويضه مع الوقت لكن الكثير منها قاد لانهيارات نهائية في أوقات لاحقة.
شركة AOL
مع نهاية التسعينيات كانت شركة AOL هي الأكبر في العالم من حيث القيمة السوقية مع قيمة هائلة ومستثمرين واثقين للغاية بمستقبل الشركة التي كانت تزود خدمة الإنترنت لمئات الملايين حينها، وفي عام 2000 قامت AOL بشراء شركة Time Warner (واحدة من أكبر الشركات الإعلامية في العالم) مقابل ما يزيد عن 160 مليار دولار لتكون أكبر صفقة تجارية في التاريخ حتى اليوم، لكن بحلول عام 2002 كانت الأمور قد تغيرت بشدة.
في عام 2002 كانت قيمة AOL السوقية قد انخفضت إلى حوالي 20 مليار دولار فقط، وبحلول عام 2015 تم شراء الشركة من قبل شبكة الاتصالات الأمريكية Verizon مقابل 4.4 مليار دولار فقط. لذا وعلى الرغم من أن الشركة نجت من الفقاعة دون الانهيار نوعاً ما، فالخسائر العملاقة التي تلقتها حولتها إلى قزم مقارنة بأيامها السابقة، وباتت اليوم مجرد اسم يذكر بالماضي لا أكثر.
شركة Amazon
خلال فترة انتفاخ فقاعة Dot-Com كانت Amazon واحدة من أكبر المستفيدين مع كونها واحدة من أول شركات التجارة عبر الإنترنت في العالم، وبالوصول إلى عام 2000 كانت الشركة تحقق نجاحاً هائلاً نقل قيمتها إلى مليارات الدولارات على الرغم من أنها لم تكن تحقق الأرباح بعد، لكن مع انفجار الفقاعة سرعان ما خسرت الشركة الجزء الأكبر من قيمتها، حيث انخفضت قيمتها السوقية إلى أقل من 10% من قيمتها قبل انفجار الفقاعة.
لم تستعد الشركة قيمتها السوقية السابقة لانفجار الفقاعة حتى عام 2010 في الواقع، لكن على الأقل يمكن القول أنها تجاوزت الأمر بنجاح حيث تعد اليوم واحدة من أكبر الشركات التقنية في العالم مع قيمة سوقية تتجاوز 800 مليار دولار جاعلة بذلك مؤسسها ومديرها الحالي Jeff Bezos أغنى رجل في العالم مع ثروة تتخطى 140 مليار دولار.
شركة Yahoo
ربما لا يوجد شركة تمثل النمو الهائل ومن ثم الانفجار التالي لفقاعة دوت كوم كما تفعل Yahoo!، فالشركة التي كانت تمتلك أكبر محرك بحث خلال التسعينات وصلت إلى قيمة سوقية تتخطى 120 مليار دولار في عام 1999 ثم ما لبثت أن انهارت بشكل شبه كامل عام 2001 لكنها استمرت بالمقاومة عبر السنوات لكنها استسلمت أخيراً عام 2016 عندما بيعت مقابل أقل من 5 مليارات دولار (أقل من 5% من قيمتها العليا) لشركة Verizon الأمريكية.
شركة Microsoft
على عكس معظم الشركات التي تأثرت بالفقاعة، فمحور عمل Microsoft لم يكن الإنترنت في الواقع، فهي منذ تأسيسها معروفة بكونها شركة برمجيات وخدمات بالدرجة الأولى، لكن هذا لم يجنبها السقوط الكبير حينها بالأخص مع قرارات الحكومة الأمريكية ضدها بسبب “السياسات الاحتكارية”. عموماً فقدت الشركة أكثر من نصف قيمتها بعد افجار الفقاعة، ولم تتمكن من العودة إلى وضعها السابق للفقاعة حتى عام 2015، لكن منذ ذلك الحين والشركة في طريق تصاعدي سريع أوصل قيمتها السوقية إلى قرابة 800 مليار دولار اليوم.
هل نعيش فقاعة تقنية أخرى؟
الجواب القصير: نعم نسبياً، لكن في حال أردنا الدخول ف الأمر أكثر يجب أن ننتبه إلى عدة عوامل أساسية، فالفقاعة هنا ليست معنية بالشركات الكبرى بالدرجة الأولى حيث أن كلاً من Apple وMicrosoft وFacebook مثلاً موجودة في مكانها الحالي لأنها تحقق أرباحاً هائلة تسمح لها بالاستمرار والنمو، لكن في بعض الحالات الأمور مختلفة تماماً وبعض الشركات تحقق أرباحاً صغيرة جداً أو أنها تعمل بخسارة حتى وقد يؤدي فشلها إلى سيناريو مشابه مستقبلاً.
حالياً ربما الشركة الأكبر القريبة من الأمر هي Amazon، فمع قيمة سوقية تتجاوز 800 مليار دولار وعائدات عملاقة كل سنة تبدو الأمور في صالح الشركة تماماً، لكن الخدعة هنا هي أن العائدات الكبيرة لا تعني أرباح كبيرة وبالنسبة لـ Amazon فالأرباح شبه معدومة نظراً لسياستها الحالية المهتمة بالسيطرة على السوق وتأجيل الأرباح إلى وقت لاحق.
بالطبع فالأمر ليس حصرياً لـ Amazon، فشركة Tesla مثلاً تخسر ملايين الدولارات كل يوم في الواقع لأن مصاريفها أكبر بكثير من أرباحها الصغيرة جداً، لكنها تستمر بالعمل بفضل الاستثمارات المستمرة التي دعلتها توازي شركة General Motors من حيث القيمة السوقية مع أن المبيعات لا تقارن حتى. كذلك هو الأمر بالنسبة لـ Uber التي تقدر قيمتها السوقية بأكثر من 40 مليار دولار مع أن قطاع التاكسي بأكمله في الولايات المتحدة مقدر بـ 11 مليار دولار فقط.
بالمحصلة هناك العديد من الشركات التقنية وشركات الإنترنت الحالية مع قيم سوقية أعلى بكثير مما هو واقعي، لكن لا يمكننا تخمين كون هذا الأمر سيقود لانفجار فقاعة أخرى أم لا حقاً، خصوصاً مع وجود العديد من العمالقة التقنية التي تمتلك قيمة سوقية تعكس الأرباح الهائلة التي تنتجها للمستثمرين.