سيميائية الأخطاء في اللغة العربية بين المرئي والمسموع المجلس الثقافي | سيميائية الأخطاء في اللغة العربية بين المرئي والمسموع
تاريخ النشر: 05-03-2022

بقلم: الدكتورة خديجة شهاب1


اللغة إذا وقعت على أكبـادنا كانت لنا بردًا على الأكباد
وتظل رابطـــة تؤلف بيننا فهي الرجاء للناطقين بالضاد
حليم دموس*

مقدمة:
شَغَلت العربية أهلها، أُفْتِنوا بها وعشقوها، وهبتهم روحها فمنحوها رعايتهم واهتمامهم. اعتنوا بها، فشذبوها من كل ما هو حوشي ومقعر، زينوها بالبلاغة مضافًا إليها الخبر والإنشاء، ضبطوا حروفها صاغوا نحوها، ألبسوها أجمل حُلَلِها وأجلّها، فأخرجوها للناس خيرَ لغة.
ولا ينسى المرء في هذا السياق فضلَ الإسلام على اللغة العربية إذ أضاف إليها الكثيرَ من المفردات والتعابير، وقد سلك بها مع الحديث النبويّ الشريف" في البلاغة مذاهب ينقطع بها كلُّ بليغ"(2)، بعد ذلك كان فتح الممالك والأمصار كبلاد فارس والرّوم، ما زاد عليها الكثير من المعاني العلمية أو المدنية وفي كل العلوم من فلسفة وسياسة إلى إدارة وفقه وأصول، فجغرافيا، وعلم الهيئة والسيرة ....... وهكذا نرى أنّ الإسلام خطا باللغة العربية خطوات مهمة وكبيرة في تعزيز موقعها ومكانتها.
إن الوضع المختلف للعرب بين الأمس واليوم؛ يدفعني إلى اختيار المنهج السيميائي الذي "يدرس الأنظمة الرّمزيّة في كلّ الإشارات ( العلامات) الدالة"(3)، تلك العلامات التي " تستمد تعددها من الإيحاءات"(4)، فتبرز كأشياء مادّية لها مدلولاتها الذّهنية المرتبطة بها، و"تنقسم إلى دوال ومداليل وعلاقات تربطها معًا" (5) حسب سوسير، ولعله من المهم توكيد "حقيقة مفادها أنّ السّيمولوجيا لا تبحث عن الحقيقة، بقدر ما تركز جهدها على عمليات الدال"(6) وهي إذ تبحث في العلامات وطرق انتاجها، كما تبحث في الأنظمة الدلالية.
وحين أرغب في دراسة مجموعات سيميائيّة لها عمق اجتماعيّ حقيقي، يفترض أن "تلتقي اللغة بالسّلوك وردات الفعل البشريّة"(7)، كالاستغراب، والاستهجان، الاستعلاء، الرفض الثورة بشكل انفعالي كبير يصل حدّ التخلي عن اللغة الأم في الكثير من المدارس اللبنانية، وحتى في بعض المجتمعات الأرستقراطية، إذ يعتقد البعض أنّ كلّ كلمة تأتي بدلالة القوّة للشخصية، ولا تكون مستقلة عن السياق الذي يتخاطب به أبناء المجتمع.
يسعى هذا البحث إلى تسليط الضوء على دور أبناء اللغة العربية؛ في تغليب المفردات الأجنبية على كلامهم، وكأنهم لا يشعرون بتحضرهم إلا من خلال ذلك، فهل الحضارة في مجملها تتوقف على الكمية التي نتقنها من المفردات باللغة الأجنبية ومن ثم نتخاطب بها في ما بيننا للتباهي أمام المجتمعات؟ علمًا أن هذا الأمر لا يعني أننا ضد تعلم اللغات، ولكننا ضد أن يأتي هذا على حساب اللغة الأم. وهل سيأتي اليوم الذي يشعر فيه العربي بتفوق اللغة العربية على غيرها من اللغات فيقتنع بضرورة إعطائها الأولوية ومن ثم يساهم في إعادتها إلى مجدها وعدم التغني باللغات الأجنبية الأخرى، ونحن نعرف أنّها لغة حيّة طيعة، تأخذ من كل اللغات، وتعطي لكل اللغات؟
يدرس العنوان الأول: دور الإعلام المرئي والمسموع في استفحال الأخطاء الشّائعة، ويبين ضعف اللغة عند الإعلاميين، إذ إنّهم يتخرجون من جامعات خاصة تولي الأهمية للغة الأجنبية، وينسون معظم مفردات لغتهم الأم، ولا يتقنون مواقع الكلمات من الإعراب، فينصبون فاعلًا أو اسمًا مجرورًا، ويرفعون مفعولًا به، أضف إلى أنّ القيمين على تلك الوسائل لا يعنيهم أن يقدموا صحافيًا مثقفًا يتقن لغته، بقدر ما يهمهم الربح الوفير.
يدرس العنوان الثاني : دور المجتمع والمدارس والمعلمين الذين يبدأون درسهم بالتهليل أنّ اللغة العربية، صعبة ولا يمكننا فهمها بسهولة، فيضعون مسبقًا حاجزّا بين المتعلمين وبين لغتهم، بالإضافة إلى الطبقة السياسية إذ يصعب على السياسيين أن ينطقوا بالكثير من المفردات بشكلها السليم، وغيرهم من الوسائل التي تساهم في تدني مستوى اللغة العربية كالصحافة المكتوبة، أو وسائل التواصل الاجتماعي التي تساهم بيسر وسهولة بانتشار الأخطاء على المستوى الكتابي.
وعلى الرغم من كل ما تعرضت له الأمة العربية من انتكاسات؛ وصدمات إلا أن ذلك لم يثن العرب عن متابعة طريقهم في المحافظة على لغتهم؛ ورَفْدِها بكل ما هو جديد في كل حقبة زمنية، فكتبوا بها في مرحلة متقدمة شتى علومهم من علم القيافة والأَثر إلى علم الحديث والأنساب ومن ثم علم الجبر والهندسة فالكيمياء والطب والفلك، وعلم المثلثات، والحِيل النافعة أو( الميكانيكا)، كما أنّهم ابتكروا المنهج العلمي في أبحاثهم وكتاباتهم، وكلّ ذلك كان باللغة العربية وقد كانت طيعة لهم.
نجد في اللغة العربية أسماء وأسماء لمواد علمية وأدبية وتربوية واجتماعية وثقافية ....مما لا حصر لها، ولا يسعنا ذكرها هنا لأنها ليست محور بحثنا، ولكن ما أردنا قوله إنّ للغة العربية فضلًا من "جهة اعتدال كلماتها إذ إنّ أكثر ألفاظها قد وُضع على ثلاثة أحرف"(8)، زد على ذلك مفرداتها الفصيحة " فليس في كلماتها الجارية في الاستعمال ما يثقل على اللسان أو ينبو على السمع"(9) وهي جارية في الاستعمال مرنة، واسعة شاملة غزيرة متسعة في مذاهب بيانها، تنساق مع علمائها في التّعبير عن حاجات أبنائها في علومهم كافة.
وما أُطلق عليه عصر الأنوار في البلاد العربية بين القرن السابع والسادس عشر الميلادي، إذ كانت النهضة العربية الكبرى وفي مختلف العلوم والفنون، وحيث كانت تنعدم الأميّة عند العرب، ذلك أنّ تعلُم القرآن وكتابته أمر مفروض على المسلمين، كان الأوروبيون في هذه الحقبة يغرقون في عتمتهم الثقافية، وتبين أنّ نسبة الأمية عندهم مرتفعة أكثر منها عند العرب.
إلى أن انقلبتِ الموازين ودخل العرب عصر الانحطاط، وقد برزت في هذه المرحلة سياسة الانفتاح على الغرب، والتي لم تكن سياسية أو اقتصادية فحسب، لا بل أيضَا ثقافية، ما أدى إلى تغيرات هائلة على المستوى الاجتماعي الأمر الذي" زاد من ارتباط العالم العربي بالغرب وبدأ تأثير ذلك كلّه في نظرة العرب إلى ثقافتهم"(10)، فطفا على السطح الجيل الذي يحب اللغة الإنكليزية، فيضعنا أمام مجموعة من العلامات الدالة من خلال تمسكه باللغة الأجنبية؛ وكل ما هو على صلة بهذه الثقافة، نعثر مع أبنائنا إلى "جانب العلامات الدّالة،على أنواع من العلامات الأخرى التي يمكن أن نَصِفها بأنّها علامات مضلّلة، يندرج تحتها هذا السؤال الذي يدلّ إلى وجود علامة ضمنيّة أخرى وهي (ضياع اللغة) وهي واهية الدلالة، يمكن أن تحمل علامات أخرى غائمة" (11) ومنها عدم التزام أبنائنا بلغتهم سليمة، فراحوا يحاكون مظاهر الحياة الأجنبية إن من حيث المأكل أو المشرب أو الملبس، وصار همّهم مواكبة التطورات القادمة كلها، وباتوا يعتقدون أنّها الحياة الأفضل والأمثل، ويتباهون بما يفعلونه.
وذهبوا في حقبة متقدّمة إلى الخجل من التخاطب بلغتهم الأم لأنّها أقل تطورًا وليست لغة حضارة، وهي جامدة لا تستطيعُ أن تستوعبَ في طياتها المفرداتِ القادمةَ من الغرب، وراحوا يخلطون اللغة العربية بالكثير من المفردات الأجنبية وعلى سبيل المثال( (بونجور، صباح الخير/ آي ونت تو درنغ، أريد أن أشرب/ آي لوف يو يا غالي) وغيرها الكثير من مصطلحات خطابهم اليومي.
وهنا أخذ الإِعراب يصعب ويثقل على أبناء العربية، وقد فسدت طبائع الناس، وفشا الخطأ وتحوّل المجتمع العربي الخالص إلى مجتمع مضخّم بلغات شتى؛ خصوصًا في الحواضر، ذلك إنّ عدم اهتمام الأبناء بلغتهم يمكن إحالته على المدلول لم( يتمكنوا) كردّ فعل، فتظهر العملية الأولى برمتها وهي تتكون من عمل مركب للعقل( يصعب)، في حين أن الثانية ( فشا) تتوفر فيها كلّ مظاهر الفعل الذي ينعكس على الأبناء، ومن هنا نرى أنّ هناك فرقًا بين السبب والنتيجة، وبين المدلول الذي يحيل عليه الدّال، وأنّ العلامة كيان بوجهين؛ ووصل الأمر إلى أنّ بعض العرب أخذ يُنكر الإعراب ويدعو إلى تخفيفه وتسهيله حتى في المناهج الدّراسية؛ علمًا أنّ اللغة العربية ليست اللغة الوحيدة التي تنهض على قواعد وضوابط، وعلى الرّغم من ذلك لم نسمع من أبناء اللغات الأخرى من يطالب بما يطالب به أبناؤنا ومثقفونا.
ومع الإلحاح الدائم والأصوات المرتفعة الدّاعية؛ يبرز المثير إلى الكلمة ومدلولها في إعادة النظر في تخفيف القواعد؛ فوقع المحظور، وعملت المؤسسات الرّسمية على تعديل المناهج التربوية؛ فأصبح التعديل علامة دالة قوية على تأثير المطالب؛ والدفع باتجاه التغيير بما يتناسب والمطلوب على الساحة المحلية والعربية، فأصبحت تُبَّسِط دروس القواعد إلى أدنى الحدود، وتُدّرس العلوم كلّها باللغة الأجنبية.
أضف إلى ذلك، ارتباط سوق العمل ارتباطًا وثيقًا باللغة الإنكليزية، فتحيل هذه الإشارة إلى علامات دالة أخرى، تحمل مضامينها وتبين أن الارتباط بالخارج؛ ساهم في توجه أهلنا وأبنائنا نحو لغة أجنبية تؤمِّن لهم المستقبل الثقافي وربما الاقتصادي، ما زاد في تعلقهم بها، فراحوا يلهثون خلف الجامعات والمعاهد الأجنبية كي يحصّلوا علومهم باللغة الرّاقية على حدِّ اعتقادهم وتعبيرهم، وقد تعامت هذه الأجيال عن كلّ ما كان للغة العربية من ماضٍ مشرق.
وما زاد الأمر تعقيدًا هو السياسات الاقتصادية المتبعة في بعض البلدان العربية، حيث يهاجر الشباب في سبيل تحصيل لقمة العيش بشكل أفضل وأوسع، ما ساعد في الغلو في الركض خلف الثقافة الغربية، ونفرت هذه الأجيال"من ثقافتها الخاصة، وما تتميز به من قيم وأعراف"(12) وتنامى استخدام اللغة الأجنبية في المؤسسات العامة والخاصة على حدّ سواء وفي وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وفي البنوك والشركات الكبرى .
وهكذا ارتمت هذه الأجيال بملء إرادتها في أحضان الثقافة الغربيّة، وهي تعيش حلم اليقظة حيث يُحيل إلى علامة زمكانية، فالمكان هو أحضان الخارج الذي يدّل على ركض العالم العربي بأسره، خلف تحصيل الحقوق العلمية، "والزّمان هو المستقبل حيث الوعد بتحقيق الأهداف، التي تُحيل بدورها على دلالة أنّها تتأرجح ما بين الفشل والتحقق"(13).
ما أدى إلى ضعف الشعور بالانتماء إلى اللغة العربية، وضعف الثقة بها، وبالتالي تَزَعْزُع الانتماء إلى الأوطان العربية، وإلى الهوية العربية، ولم تعد معها اللغةُ العربيةُ "جزءًا لا يتجزّاء من السيادة والحفاظ على اللغة هو حماية لهذه السيادة"(14) الأمر الذي يشير إلى أنّ اللغة تعاني مشكلة كبيرة ، ألا وهي المحافظة على خصوصيتها وضمان استمرارها وألقها وتميزها بتفوقها اللغوي، وفي أن تبقى لغة الحكّام والتجار، والإدارة ، والدّين والأدب والشعر والنقد.
في المرحلة الراهنة " تتفاقم الأخطار حول اللغة العربية بحسبانها وعاءً للثقافة العربية، وللحضارة الإسلامية، وهي أخطارٌ قادمة من هيمنة النظام العالمي الذي يرفض صياغة عالم جديد متعدد الأقطاب والمراكز والثقافات"(15)، وهو يسعى إلى فرض اللغة الأقوى وذلك بحكم الهيمنة الساسية، والسيطرة العلمية والتَقَنِّية والاقتصادية؛ ما يفرض علينا التعامل بفطنة وذكاء مع هذه الأخطار، بما قد يرفدنا ويدّعم خطواتنا في المحافظة على لغتنا رمز هويتنا وبقائنا.
في ظل الهجمة الشرسة على اللغة العربية، كلّنا مسؤول عن تراجع دورها في المؤسسات والمدارس، ولكل دورُه في تشويه الحقائق، والمساهمة مع الغزو الثقافي في" قلب المفاهيم بما يخدم مشروع الهيمنة، فالمناضل يصبح إرهابيًا، والمقاوم هو المخرب؛ والخانع الذليل هو المعتدل، للأسف هذ المصطلحات تتغلغل في لغتنا العربية وخاصة في لغة الإعلام والإعلان"(16)، وهنا يحضرنا رأي ابن حزم الذي يربط بين سقوط اللغة، وسقوط الدولة السياسي والعسكري، ويرى أنّ مايفيد لغة الأمّة وعلومُها وأخبارُها هو قوّة دولتها، ونراه محقًا في حكمه؛ فالأمة "التي تقع تحت سلطان من لا ينطق بلسانها ....إنّ لغتَها تصير إلى انحطاط وضياع" (17)، ما يؤكد لنا أنّ المجتمع هو الذي يطور اللغة، ويعمل بالتالي على تجديدها ومنحها الروح، وهو الذي يأخذ حياتها ويمكنه أن يعيدها إليها.
في المستوى الإعلامي لا يتوقف الأمر عند هذا الحدّ فالأخطاء اللغوية والنّحوية التي نعثر عليها في بعض المجلات والجرائد، أو التي نسمعها يوميًا في نشرات الأخبار ومن المحطات الإذاعية حدث ولا حرج، حتى أنّ الكثير من الإعلاميين يخلطون بين الحروف ومخارجها فيتساوى عندهم حرف ( س= ث/ د= ض/ ق = ك/ ذ= ز) إلى آخر القائمة.
كما يكثر استخدامهم لكلمات (هكذا تصرفات، أو هكذا قرار)، والصحيح (تصرفات كهذه، أو قرار كهذا)، أو (أهدى رئيس التحرير المحرر هدية) والصحيح (أهدى رئيس التحرير إلى المحرر هدية) لأن الفعل أهدى يتعدى بحرف الجر؛ أمّا إذا تعدى مباشرة فإنّ المعنى يتغير ليصبح بمعنى الهداية مقابل الضلال، ومنها أيضَا (الأمر ملفت للغاية) أمّا الصواب منه فهو (الأمر لافت للغاية) على وزن اسم الفاعل وقس على ذلك الكثير؛ ما تقدّم يحيلنا على إشارة دالة على عمق الهوة بين اللغة العربية اليوم وبين أبنائها وفي مستويات مختلفة، ما يحيل على إشارات أخرى ضمنية توجب دقّ ناقوس الخطر، والاستدارة نحو لغتنا لتبقى لنا هويتنا وقوميتنا.
ونرى أنّ هذه الأخطاءَ وغيرَها تُبعِد الجمال من اللغة العربية وتُنفّر منها؛ كما أنّ بعضها يصبح عصيًّا على الفهم؛ وفي بعض الأحيان نحتاج إلى ترجمان أومحلل لغوي أو نَحَويٍّ حتى نستطيعَ أن نلتقطَ ما أراد قولَه، ، ينثر الجيل(هو) الأخطاء فيتمتع بمدلول في حالة المرجعيّة الضمنيّة التكوينية، ومثال على ذلك (هو) تدل على شيء غير تعليمي، وهذا ما يجعل منه علامة على التراجع الدائم في امتلاك اللغة العربية.
وما ورد أعلاه ليس إلا القليل من كثير في عالم الإعلام ذلك أنّ العديد من الإعلاميين ينصب فاعلًا، ويجرّ مفعولًا به، والمحطة لا تكلّف نفسها الاستعانة بمدقق لُغّوي، أو بتدريب طاقمها الإعلامي على اللغة العربية ومن ثم إخضاعه لدورات تقوية، تمكنّه من لغته وتبعده من اللحن والخطأ، والشواهد على ذلك كثيرة والقائمة تطول.
أمّا في المستوى الاجتماعي أو الثقافي، فنسمع من بعض المسؤولين في المدارس استخدام بعض التعابير الخاطئة كأن يعلنوا مثلًا- أنّه على الطلاب التواجد في المكان المحدد – وهذا التعبير خاطئ لأن كلمة تواجد تعني( الوجد) أي الحبّ الشّديد. وممّا زاد في الطّين، بِلّة ما يسمّى اليوم بلغة "النت" وعصر العولمة الذي شقَّ طريقه إلى بيوتنا وجامعاتنا ومدارسنا وتبين لنا أنّ المعلوماتية " لا ترحم ولا تشفق، ومن لم يحصّن نفسه بالعلم والمعرفة والنتاج الفكري والأدبي فإنّه سيذوب لا محال في الآخر" (18) ولأننا كأمّة عربية تقف عاجزة أمام علامات الضعف في البحث العلمي والإنتاج المعرفي، ولأنّ السّياسات الحكوميّة الثّقافية غائبة عن السّاحة التّربويّة، أضف إلى ذلك سيطرة اللّغة الأجنبيّة على مناهجنا، وقعنا في المحظور؛ وهنا على الحكومات أن تعلن دوالها في السياسة الثقافية، فتأخذ دورها في التشجيع على المطالعة باللغة العربية، وتحفيز المدارس على تدريس العلوم في المراحلة الثانوية باللغة العربية، وتعيد النظر بالمناهج؛ ليحيل كل ذلك على علامات التقدم والتطور في المستوى اللغوي.
جراء لغة "النت" شُوِهت الحروف العربيّة تشويهًا كاملًا، وما كان مرفوضَا من دعوات إلى جعل اللّهجة العاميّة هي اللّهجة المتداولة، أو تلك التي أرادت أن تسوّق لاستخدام السّريانية وقُوبلت بالرفض في خمسينيات القرن، أصبحت أمرًا واقعًا اليوم وذلك بفضل أبنائنا، إذ أخذوا يكتبون الأرقام بدلًا من الحروف في محادثاتهم، وتحويلها بالكامل إلى جمل وعبارات تحتاج إلى متخصصين لفك شيفراتها، ومن أمثلتها: (تعا لعندي حتّى نحكي مع بعضنا ونغيّر الخبر) ،( ta3a la3ndi 7atta ne7ki ma3 ba3edna w n8ayyer el5abar ( من هنا نرى أن المتحدّث بلغة "التشات" قد استبدل الحروف العربيّة بالحروف اللاتينيّة والأرقام، فرمز إلى حرف (العين بالرقم 3، والحاء بالرقم 7، والغين بالرقم 8، والخاء بالرقم 5). أو (2na ou7ibouka ya a5i) الكلام بالعربيّة هو (أنا أحبّك يا أخي). وهكذا...
في المستوى الشخصي أجد صعوبة في فهم هذه الكتابة، وأشعر بحرج كبير إذا ما أردت أن أجاري طلابي في التداول بها، وحاولت لغير مرّة إقناعهم أنه علينا أن نترك التخاطب بها لأنّها لا تمت إلينا بصلة .
أضف إلى أنّنا ندرس اختصاص اللغة العربية ما يفرض علينا أن نؤمن بدروها في مد جسور التواصل بيننا، ومن ثم إظهار العلامات الدالة على سهولتها؛ التي تحيل بالتالي على التمرس باستخدام اللغة العربية الفصحى على الأقل في المدارس والثانويات، فيحيل ذلك على دوال أنّها ليست صعبة كما يحاول البعض أن يدّعي، زد على ذلك أنّ هناك الكثير من العبارات التي لا تحتاج إلى حروف كثيرة لنعبّر بها عن حاجاتنا كما الأمر في اللغات الأخرى فكلمة ( - My Darling ماي دارلينغ) في الإنكليزية والمؤلفة من عشرة حروف يقابلها في العربية ( حبيبي) وهي مؤلفة من خمسة حروف؛ وعبارة (صباح الخير) في العربية والمؤلفة من تسعة أحرف يقابلها في الإنكليزية) Good morning) وهي مؤلفة من أحد عشر حرفًا وهي بالتالي أطول من حيث عدد الحروف وأثقل في الكتابة واللفظ. أَوَنقول بعد إنّ اللغة العربية أكثر صعوبة من غيرها من اللغات؟! .
نضيف إلى ما تقدّم الحديث به، ما تعرضه المحطات التلفزيونية من المسلسلات المترجمة من الهندية أو الفارسية أو المكسيكية أو التركية، كأن يَرِد في شريط الترجمة،( أنتي فتات جميلة؛ وعليك أن ترتدين ثيابً فاخرتن، ولكي وحدكي أوجه كلامي) وهنا يبدو الخلط واضحًا بين كاف المخاطبة والتي يجب أن تُحرك بالكسر وبين ياء المتكلم التي تعود إليّ، كما كُتِبت التاء المربوطة تاء مبسوطة، ولم يُنصب الفعل المضارع، ولم يُوضع التنوين على ألف، ومع هذا النوع من الأخطاء حدث ولا حرج.
في المستوى البصري وضعْنا يدَنا في هذه العبارة على كم هائل من الأخطاءٍ الإملائية والنحوية؛ ونحن نعرف أن عين المُشَاهِد قد التقطت هذه الأخطاء، فاعتمدها لاحقًا في كتابته، وقد حسب العبارة صحيحة سليمة خالية من أية عيوب لأن المحطة مصدر ثقة، وقد وردت في شريط الترجمة الصادر عن وسيلة إعلامية محترمة، تحترم نفسها ومشاهديها، وهي حسب ظنه لا يمكن أن تخطئ، متناسيًا أنّه أمام سطوة المال والمحافظة على الريوع الربحية تسقط اللغة في مهاوي الجهل والإهمال واللامبالاة.
ولا بدّ في هذا السياق من الإشارة إلى أنّه يتم تحويل الكثير من المفردات من اللغة العربية الفصحى إلى اللهجات العامية؛ وعلى سبيل المثال لا الحصر استبدال ( أسعد الله مساءكم ب يسعد مساكن/ فيك تدهن لي مرهن على الحرْق/ وأعطونا رأيكون بطبختنا) وقد يكون الخطأ هنا سمعيًا، فيأتي التبرير الجاهز وهو أنني استخدم اللهجة العامّية ما يساهم في ترسيخ هذه المفردات في أذهان الناشئة والجيل الصاعد، ونحن نعرف ما السلطة التي يمارسها الإعلام اليوم والمكانة التي يحتلها، وتأثيره في الرأي العام. وهنا نلاحظ أن اللغة تعاني الكثير من المشاكل ومن التهميش والازدراء وعلى يد أهلها وللأسف الشديد.
ولكن وعلى الرّغم من كلّ ماتقدّم،لا بدّ وأن أضع بين أيدي الناس الكثير من الحقائق اللغوية والتي تؤكد أنّ اللغة العربية أقرضت " سواها من لغات الإنسان أكثر من اقتراضها منها"(19) .... وهنا يظهر فضلها جليًا وقد استطاعت أن تقرض اللغات الأخرى شيئًا كثيرًا "لم يحصه حتى اليوم الراسخون في علم اللغات"(20)، وما ذهبت إليه يؤكده ما جاء على لسان اللغوي الألماني" يوهان فك" إذ إنّه مع الأيام برهن" التراث العربي التالد الخالد على أنّه أقوى من كلّ محاولة يُقصد بها إلى زحزحة العربية الفصحى عن مقامها المسيطر"(21)، وهذه شهادة تفتخر العربية بها، وتضعنا أمام أمل جديد من أنّ اللغة العربية ستعود إلى عهدها القديم وألقها العتيد.
إذًا تعاني اللغة العربية اليوم من ضغوطات كبيرة على المستويين المحلي والعالمي، وهنا أخذت الأجيال تعاني جراء هذا الموضوع الأمرّين، وقد نرى اللّغة وهي تمرّ بأوضاع وظروف شتّى، وتعاني كما يعاني النّاطقون بها، ذلك أنّها لم تكن منعزلة عن التّطورات التي أصابت المجتمع،" وكان على العرب أن يواجهوا هذه القوة الطّاغية للحضارة الغربيّة"(22) ، فخاضت صولات وجولات، استطاعت معها في كلّ مرحلة أن تقاوم الوهن والضّعف لتعود أقوى، وأكثر قدرة على المواجهة والتّحدّي، ذلك أنّ أهلها يثقون بها وبقدرتها على المواكبة والتّحدّي، وحتى تنمو اللغة العربيّة أكثر فأكثر تحتاج إلى نهضة علميّة وفنيّة وثقافيّة شاملة لتكون في مستوى البلدان المتقدّمة في العالم، ولتعيدها إلى سابق مجدها.
خاتمة البحث:
لا يغيب عن بالنا أنّ اللغة العربية هي لغة الشعر الجاهلي، كما هي لغة الأباء والجدود، ولغة القرآن الكريم الذي حفظها من الاندثار، وهي التي غذَّت علوم الأمم وقد اعتمدت عليها في نهضتها الفكريّة والعلميّة.
وما النّهضة التي علينا أن نبدأ بها الآن وفورًا إلا خطةٌ متكاملةٌ ما بين أبنائها والناطقين بها، والمؤسسات الرّسمية وتأتي في كل الميادين وعلى الشكل الآتي:
_ يجب القضاء على التخلف العربي في الحقل العلمي، ودعم الأبحاث العلمية، والإنتاجات الفكرية، بغية استعادة الأمجاد العربيّة في هذا المضمار؛ ولا ننسى في هذا السياق ما الأثر الذي تتركه الوحدة العربيّة على المستويين السياسي والثّقافي، على شدّ أزر اللغة وصمودها في وجه اللغة الدّاهمة.
_ يجب تضييق الهوة بين الفصحى والعامية، وهذا الأمر ليس مستحيلًا لأنّ عاميتنا فيها ما نسبته سبعون بالمئة من اللغة الفصحى.
- "ضرورة التّمسك بالتعريب،الذي هو حياة اللغة العربية"(23) لإعادة ضخ النَفْس في روحها.
- إعادة هيكلة البرامج التعليمية وباللغة العربيّة في المدارس والثّانويات والجامعات في الدّول العربية، وهي تجربة ناجحة والمثال حاضر أمامنا في القطر العربي السوري، ولا يعاني أبناؤه من مشاكل تذكر في سوق العمل أو في التّواصل مع الدّول الأخرى ومن اللغات المختلفة( الإنكليزية على الأقل). فاللغة العربية "صالحة للتّدريس الجامعي، ولكن بطء التّعريب عرقله"(24).
- تدريب المذيعين على اللغة العربية الفصحى، وتوسيع معجمهم اللغوي بإتقان المفردات المتنوعة التي ستكون ساعدًا لهم في عملهم، فلا تقف عند أهل السياسة، بل تتعداها إلى أهل العلم والتّربية.
- توسيع التّبادل الثّقافي والعلمي بين البلدان العربية والبلدان الأخرى.
- تقوية الدّعاية للغة العربية وأجهزتها من أجل نشرها، وهنا يأتي دور الإعلام والإعلان باستخدام اللغة العربية في كل إعلاناته، وبرامجه السياسية والثّقافية والاجتماعيّة.
- فتح مراكز ثقافيّة ومعاهد لتعليم العربيّة لغير الناطقين بها، ولا سيما في الأقطار الإسلاميّة غير العربية.
- تأسيس صندوق خاص للدعم والدّعاية.
- إجراء المسابقات، وتوحيد المصطلحات العلميّة والفنيّة والهندسيّة، والإكثار من المعاجم المتخصّصة.
- العمل الدائم من قبل المجامع العربيّة، وهي مشكورة لأنّها لم تقصر يومًا، ولكنه المرحلة تتطلب السرعة في العمل لأجل رفد اللغة العربية بمصطلحات تتلاءم وكل مرحلة من مراحل التّطور العلمي والثّقافي.
- إغناء المكتبة العربيّة بالمراجع العلميّة العربية في مختلف العلوم للتّدريس الجامعي.
- التّشجيع على المطالعة، وخصوصًا الكتب الورقيّة بدعم الطباعة، ما ينعكس أسعارًا مخفضة للكتب الأمر الّذي يساعد في امتلاكها وقراءتها من قبل الشّعب العربي وغيره من الشّعوب الإسلاميّة غير العربية، أو شعوب العالم قاطبة.
وأملنا في تحقيق حلم استعادة المجد كبير، فقد برهنت اللغة العربيّة في غير مرّة أنّها لغة الماضي المجيد، وأنّها حيّة تؤثر وتتأثر وتتفاعل، وأنّها متفوقة على كلّ لغات العالم بما فيها من خصائص ومرونة، وهي لغة الحاضر الّذي يستوعب الطروحات كلها ، يفتح زوايا الحوار على رؤى متعددة تعيش وتحيا بحياة أهلها، وأنّها لغة المستقبل الّذي يلحق بركب النّمو والتّطور، فتستوعب المفردات كلها سواء الأجنبية الدّخيلة، أو المعرّبة، ولا تقصّر عن السّير في طريق الحضارة، وهي ستصبح غدًا " لغة الفكر المتّطور، وسوف تكون مثالًا للحيويّة والقوّة، وسوف تحلّ محل اللهجات المنطوقة [من] دون أن تطمسها طمسًا مصطنعًا"(25)، إذا إنّ اللغة العربيّة لا تريد أن تطمس لغة، أو تطمُسُها لغة أخرى.
المجد لك يا لغتنا، وأنت تتفاعلين على المستوى الثّقافي، والعلمي والاجتماعي والسّياسي، وقد حان الوقت لنزفك عروسًا للغات العالم؛ ليستعيد العرب معك مجدهم ولغتهم، ووضعها في مكانتها اللائقة بها، والكفّ عن النّظرة الدونيّة إليها.

 

الهوامش
1- أستاذة في الجامعة اللبنانية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية.
*- حليم بن ابراهيم جريس دموس، شاعر لبناني ولد في زحلة 1888-1957م.
2- محمد بن ابراهيم الحمد: فقه اللغة مفهومه وموضوعاته وقضاياه، دار ابن خُزيمة للنشر والتوزيع المملكة العربية السعودية، الرياض، ط أولى، ص 125، سنة 2005م.
3- علي مهدي زيتون، النص الشعري المقاوم.دار العودة، بيروت، لبنان، ط 3، 2013 م، ص107.
4- إمبرت إيكو، ت، سعيد بنكراد، العلامة تحليل المفهوم وتاريخه. المركز الثقافي العربي، بيروت ،لبنان، ط أولى، 2007م، ص83.
5- ميجان الرويلي، وسعد البازعي، دليل الناقد الأدبي. المركز الثقافي العربي ، بيروت، لبنان، ط5، 2007م، ص177.
6- صالح الهويدي، المناهج الحديثة أسئلة ومقاربات, دار نينوى للدراسات والنشر، دمشق، سورية، ط أولى، 2016م، ص159.
7- علي مهدي زيتون. م،س، ص107
8- محمد ابراهيم، الحمد، م ، س. ص 133.
9- م، ن. ص133.
10- محمد حسن، عبد العزيز: العربية الفصحى المعاصرة قضايا ومشكلات، مكتبة الآداب للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة، ط أولى، ص8، سنة2011م.
11- خديجة ، شهاب: أدب الأطفال حكاية جيل لجيل آخر، مجلة المنافذ الثقافية،العدد 20، ربيع 2017م، ص 4.
12- محمد حسن، عبد العزيز: م، س.ص8
13- خديجة، شهاب: أدب الأطفال م، س، ص5
14- عبد العزيز، التويجري: اللغة العربية والعولمة، منشورات المنظمة الإسلاميّة للتربية والعلوم والثقافة، إيسيسكو، ص8، سنة 2008م
15- م.ن ص 7
16- طارق، حُديفة: اللغة العربية وتحديات العصر موقع خيام، khiyam.com.
17- م ، ن. ص7.محمد، قيراط: اللغة العربية وتحديات العولمة، مجلّة بوابة الشرق الإلكترونية عدد رقم 3439الصادر في 2-1-2016م
18- صبحي، الصالح: دراسات في فقه اللغة، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان،ص348، ط16، آيار 2004م
19- م، ن، ص348.
20- محمد بن ابراهيم الحمد: فقه اللغة مفهومه وموضوعاته وقضاياه، دار ابن خُزيمة للنشر والتوزيع المملكة العربية السعودية، الرياض، ط أولى، ص 125، سنة 2005م.
21- محمد حسن، عبد العزيز: العربية الفصحى المعاصرة قضايا ومشكلات، مكتبة الآداب للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة، ط أولى، ص10، سنة2011م.
22- م ، ن. ص7.
23- جعفر، الجشي: أوهام التخلّف والتحذير من خطر السقوط، صحيفة اليوم ، الإثنين في 21 يوليو العدد10993/2003م
24- كيفور، ميناجيان: مجلّة اللسان العربي، يصدرها المكتب الدائم لتنسيق التعريب في العالم العربي جامعة الدول العربية الرباط، المغرب، العدد5،المجلد الخامس سنة 1967م.
25- سنتكيفيش، لغوي روسي


جميع الحقوق محفوظة لموقع جامعة الأمة العربية © 2021 - 2013