مفاهيم منوّعة - الأيدولوجيا المجلس الاجتماعي | مفاهيم منوّعة - الأيدولوجيا
تاريخ النشر: 22-01-2022

بقلم: جاد الكريم الجباعي

الأيديولوجية Ideology لغة مصطلح يوناني مركب من كلمتين هما Idea ومعناها صورة ذهنية أو فكرة أو مثال (عند أفلاطون)، وتعني أيضاً المثل الأعلى والخطة والتصميم والمشروع، وlogea ومعناها علم، وهي هنا أقرب في دلالتها إلى كلمة منطق Logic. وترجمة هذا المصطلح الحرفية هي «علم الأفكار» أو منطق الفكر. ويعني منظومة المبادئ والأسس والقواعد التي تضمن اتساق الفكر مع نفسه ومع موضوعه، خلافاً للمنطق الصوري الذي يعنى باتساق الفكر مع ذاته فقط.
والأيديولوجية بوجه عام، منظومة متسقة من الأفكار والتصورات والقيم تحدد رؤية الفرد إلى الطبيعة والمجتمع والإنسان، وتوجه سلوكه، بقدر ما تحدد رؤية الجماعة وموقفها وأساليب نشاطها، ويعتقد معتنقوها أنها الحق. وأيديولوجية عصر ما، كعصر النهضة مثلاً، هي التي كان يندرج تحت قواعدها العامة كل تقرير أو حكم صدر في ذلك العصر. وثمة أيديولوجية قومية تحدد الأفق الذي تتطلع إليه أمة معينة والأهداف التي تنشدها، وأيديولوجية طبقية أو فئوية تعبر عن مصالح فئة اجتماعية معينة وتحدد علاقاتها بغيرها من الفئات الاجتماعية. ولكل حزب سياسي أيديولوجية، قومية أو دينية أو ليبرالية أو اشتراكية.. تتعين بالفئات الاجتماعية التي يمثلها هذا الحزب وبالأهداف التي يعمل من أجل تحقيقها.
ومفهوم الأيديولوجية من المفاهيم الملتبسة، إن لم يكن من أكثرها التباساً، إذ ينطوي على دلالات متضاربة، ويشمل جوانب فلسفية واجتماعية وسياسية تبعاً لمجالات استخدامه في السجال السياسي أو في الصراعات الاجتماعية أو في نظرية المعرفة. لذلك تعددت تعريفاته، فقد حدده ريمون أرون Raymond Aron بقوله «الأيديولوجية منظومة لتفسير العالم الاجتماعي تنطوي على نظام من القيم المقبولة وتقترح إصلاحات ينبغي إنجازها وانقلاباً يخشاه الناس أو يأملونه».
والأيديولوجية في نظر آدم شاف Adam Schaff «منظومة من الآراء تُحدد من جراء اعتمادها على منظومة من القيم المقبولة، اتجاهات الناس وسلوكاتهم إزاء أهداف التطور المتوخاة وأهداف المجتمع أو الفئات الاجتماعية أو الفرد». وفي رأي ألتوسير Louis Althusser «منظومات من التصورات (صور وأساطير وأفكار أو مفاهيم) لها منطقها الخاص ودقتها وتتمتع بوجود ودور تاريخي في قلب مجتمع معين». ويعرّف فرناند دومون Fernand Dumont الأيديولوجية بأنها «الصور الثقافية الأكثر وضوحاً، فيها تجد ضروب التميُّز مسوغاتها، وتنمو بالمعارف والرموز. فالفئات الاجتماعية تعتنقها، وهي تولد حركات اجتماعية. إن لها وسائلها في الانتشار وأساليب معقدة في البرهنة ودلالات جاهزة للوقائع والأحداث التي تطرأ».
نشأة المفهوم وتطور دلالته
ظهر مفهوم الأيديولوجية في فرنسة غداة الثورة الفرنسية، في خضم الصراع الذي خاضته البرجوازية ضد النظام القديم والأفكار التي كان يقوم عليها. وكان ديستوت دي تراسي، الفيلسوف وعالم الاقتصاد الفرنسي أول من استخدم هذا المصطلح في كتابه «مشروعات المبادئ الأيديولوجية» للدلالة على التحليل التجريبي للعقل البشري، التحليل الذي صاغه كوندياك انطلاقاً من أن الإحساس هو أصل جميع الأفكار. وكان دي تراسي يتطلع إلى إقامة «علم الأفكار» على أسس ديكارتية، ليكون أساساً فلسفياً لسائر العلوم، وحدده بقوله: «يمكن أن نسمي هذا العلم المقترح أيديولوجية إذا نظرنا إلى محتواه، ونحواً عاماً إذا نظرنا إلى وسيلته، ومنطقاً إذا نظرنا إلى هدفه» وهدفه هو التوصل إلى التفكير السليم، وذلك بإصلاح المنطق وتحرير الفرد والمجتمع من الأفكار الموروثة التي تعكر صفاء العقل وتمنعه من إظهار الحقيقة الواقعية على وجهها الصحيح. وفي عهد نابليون، فقد المصطلح معناه الأصلي، وأُطلق على الفلاسفة الذين تبنوا هذا الاتجاه النقدي، ومنهم كابانيس وفولنيه ودي تراسي وغيرهم، اسم الأيديولوجيين، وباتت الأيديولوجية تعني الأفكار الجمهورية أو الثورية المعارضة لسياسة نابليون. ثم تغير معنى المصطلح لدى انتقاله إلى ألمانية على يدي كارل ماركس[ر] وفريدريك أنغلز[ر] اللذين أطلقا على أفكار الفلاسفة الألمان الذين تأثروا بمذهب هيغل، بمن فيهم الهيغليون الشبان ذوو النزعة الليبرالية، صفة الأيديولوجية بمعنى الوعي غير المطابق للواقع العياني، الوعي غير التاريخي وغير الكوني في الوقت نفسه. وتجلى هذا النقد في كتابهما المشترك «الأيديولوجية الألمانية».

وقد حصر عبد الله العروي استعمالات هذا المفهوم في الغرب في خمسة معان:
1ـ في القرن الثامن عشر كانت الأيديولوجية تعني الأفكار المسبَقة الموروثة من عصور الجهل والاستعباد. وفي هذا الاستعمال يتقابل التقليد الجاهل مع العقل الكاشف عن الحقيقة البديهية وهو عقل واحد في الفرد وفي الإنسانية كلها.
2ـ عند الفلاسفة الألمان ولاسيما هيغل والاتباعيون (الكلاسيكيون) تعني الأيديولوجية منظومة فكرية تعبر عن الروح التي تحفز حقبة تاريخية إلى هدف مرسوم في خطة التاريخ العام. فهي عندهم خطة واعية بذاتها.
3ـ عند ماركس وأنغلز تعني منظومة فكرية تعكس بنية النظام الاجتماعي، فينظر إليها انطلاقاً من البنية الباطنية للمجتمع الإنساني الذي يمتاز بإنتاج وسائل استمراره.
4ـ عند نيتشه[ر] تعني مجموع الأوهام والتعليلات والحيل التي يعاكس بها الإنسانُ ـ الضحيةُ قانونَ الحياة. فهي ظاهرة عامة تفصل عالم الأحياء عن عالم الجماد.
5ـ وعند فرويد[ر] تعني الأفكار الناتجة عن التعقيل الذي يسوِّغ السلوك المعاكس للذة والضروري لبناء الحضارة. واللذة هي ميزة الحيوان ومن ثم ميزة الإنسان الأولى.
في هذه الاستعمالات تتغاير التعابير (تقليد، روح، بنية، وهم، تعقيل)، وتختلف التطلعات التي تميز الأيديولوجية من الحق (عقل فردي، تاريخ عام، مجتمع إنساني، حياة، حيوان)، مع وجود تشابه بنيوي فيما بينها.
خصائص الأيديولوجية وحدودها
تجعل الرؤية الأيديولوجية الفرد يرى الأشياء والظواهر لا طبقاً لواقعها الموضوعي، بل طبقاً لمبادئ أيديولوجيته ومسلماتها وحقائقها ويقينياتها. فكل أيديولوجية تتوفر، في مبادلاتها مع الواقع المتغير وحقائقه الموضوعية، على آليات داخلية من التفسير والتأويل والتعليق والاصطفاء والتحوير والبتر... هي أشبه ما تكون بجهاز المناعة تدافع به عن نفسها إزاء الأيديولوجيات الأخرى وإزاء الحقائق الواقعية التي تصادمها على الدوام، مما قد يحولها إلى منظومة مغلقة صادّة للفكر الحر ولمعطيات الخبرة العملية والبحث التجريبي. ولاسيما حين يتبنى المجتمع أفكاراً موروثة كانت مناسبة للوضع الاجتماعي في الماضي.
ولما كانت ماهية الأفكار تتقوَّم بمطابقتها أو عدم مطابقتها للواقع، فإن وظيفتها تتقوَّم بفائدتها وقدرتها على حفز الفاعلية والنشاط لتحقيق الغايات والأهداف التي تنشدها أمة معينة أو جماعة معينة، كما تتقوَّم بالجدوى والإنجاز. والأيديولوجية التي تُعنى بتوظيف الأفكار في نسقها الخاص تتعلق بالفائدة أو المصلحة الاجتماعية السياسية أكثر من تعلقها بالحقيقة ونشدانها إياها، وتتعلق بالإنجاز أكثر مما تتعلق بمشروع معرفة العالم لإعادة إنتاج صورته في الذهن على نحو مطابق لواقعه الفعلي، ومن هنا جاء افتراقها عن الفكر النظري أو الفلسفة المؤسسة على الانضباط العقلي وعلى النقد المتجدد (تحت مقولة النفي ونفي النفي). وافتراقها كذلك عن العلم التجريبي والمعرفة العلمية. وهذا التفريق هو من قبيل تحديد مجالات عمل العقل تحديداً نظرياً في حين تتشابك هذه المجالات وتتداخل في فضاء الثقافة العام ويغذي بعضها بعضاً.
وبخلاف موضوعية العلم، تنطوي الأيديولوجية على عنصر ذاتي يغلِّب إرادة المصلحة وإرادة السلطة والرغبة في تحقيق الأهداف الخاصة على إرادة المعرفة. فقد ارتبط هذا المفهوم بالصراعات الاجتماعية ـ السياسية، فلا يتبلور ولا يزدهر إلا في إطار نظرية اجتماعية ونظرية تاريخية متكاملتين. وتتعدد الأيديولوجيات وتختلف بتعدد القوى الاجتماعية الفاعلة في هذه الصراعات إذ تتبنى كل منها تأويلاً خاصاً للوضع الاجتماعي وتفسيراً خاصاً للتاريخ. وتقترن السيطرة الاجتماعية ـ الاقتصادية والسياسية بهيمنةٍ أيديولوجيةٍ تقنِّع مصالح الفئات الحاكمة وتسوغها وتضفي عليها طابع المصلحة العامة، وتقدم نفسها بصفتها «العقل السليم» الذي ليس سوى عملية تعقيل تكيف تفكير الفرد وفق ما هو مقبول عند الجماعة المعنية، وترمي كل خروج عليها بالانحراف أو الخيانة أو الهرطقة. وبذلك لا تنفصل وظيفة الأيديولوجية المعرفية عن وظيفتها العملية. فإذا كانت الحقيقة العلمية حقيقة لذاتها ومحكومة بطريقة إنتاجها والتحقق من صحتها، فإن للمعرفة الأيديولوجية ارتباطاً وثيقاً بالوظيفة العملية وبالأهداف الذاتية التي تنبثق منها وتتأسس على مبادئها، وهو ما يخضع عملية إنتاج المعرفة للمطالب العملية. ولذلك قيل إن للخطأ مصدرين أحدهما اجتماعي، طبقي أو فئوي وبالتالي أيديولوجي، والآخر معرفي أو منهجي. والنقد الإبستيمولوجي هو القادر على كشف أخطاء الأيديولوجية وتمييز الزائف من الصحيح فيها. ونقد كهذا يتطلب، قبل كل شيء تحديد حاملها الاجتماعي وتفكيك خطابها في ضوء التوتر والتنابذ القائمين دوماً بين الأيديولوجي والواقعي، وفي ضوء كلية العقل وكونه «أعدل الأشياء قسمة بين الناس» (بحسب ديكارت)، إذ تقنع الحقيقة العقلية أو العلمية الإنسان العاقل من دون أي صفة أخرى، قومية أو طبقية أو دينية أو سياسية، في حين لا تقنع «الحقيقة» الأيديولوجية سوى أصحابها ومشايعيها ومحازبيها. وهذا لا ينفي وجود عنصر عقلي فيها، لأن العقل الذي ينتجها هو نفسه الذي ينتج الفلسفة والعلم. ويتجلى هذا العنصر العقلي في طابعها النقدي الملازم لطابعها الوصفي أو التقريري ملازمة حكم القيمة لحكم الواقع. فالقول إن الأيديولوجية وهم خالص أو وعي زائف هو إطلاق لا يخلو من تعسف، يتجاهل إمكان انفتاح الأيديولوجية على العالم الواقعي وعلى الخبرة العملية وعلى معطيات البحث التجريبي والفكر النظري مما يشحذ طاقاتها أو قدرتها النقدية. فانغلاق الأيديولوجية على ذاتها هو الذي يجعل منها وعياً زائفاً.
الأيديولوجية في الثقافة العربية المعاصرة
انتقل مفهوم الأيديولوجية إلى الثقافة العربية عن طريق الترجمة، بالاسم ذاته، لعدم وجود لفظ عربي مطابق لمعانيه المختلفة، وإن اجتهد بعضهم في تسميته بـ «الفكرياء» ولكن هذه التسمية لم تشع. واتخذ بادئ الأمر طابعاً إيجابياً ولاسيما لدى الأحزاب السياسية الحديثة القومية منها والاشتراكية، وشاع بين الكتّاب والصحفيين وفي أدبيات الأحزاب السياسية. فكتب نديم بيطار كتاباً بعنوان «الأيديولوجية الانقلابية» يحدد فيه خصائص الفكر القومي المطلوب لإحداث ثورة جذرية على التخلف والتبعية والتجزئة. لكن أول من استخدمه بمعنى نقدي هو عبد الله العروي في كتابيه «الأيديولوجية العربية المعاصرة» و«العرب والفكر التاريخي» اللذين دعا فيهما إلى ثورة «كوبرنيكية» في الفكر العربي تمس المنهج لا الأهداف، وإلى ضرورة تمثل الليبرالية وتجاوزها إلى ماركسية تاريخية ونقدية في الوقت ذاته، كاشفاً النقاب عما سماه التأخر العربي الذي يقبع في أساس الهزائم والنكسات التي منيت بها الأمة منذ عام 1967، كما تناول العروي المفهوم ذاته بحثاً وتحليلاً في كتابه «مفهوم الأيديولوجية». وفي المنحى نفسه كتب ياسين الحافظ كتاب «الهزيمة والأيديولوجية المهزومة» كشف فيه عن الأسباب العميقة لتعثر المشروع القومي العربي وإخفاق التنمية، ودعا إلى تحديث بنى المجتمع العربي ولاسيما الأيديولوجية والسياسية منها، بإعادة بنائها على أسس عقلانية، علمانية وديمقراطية، وبامتلاك وعي كوني تاريخي حديث مطابق لحاجات تغيير الواقع. ودعا الياس مرقص إلى «إقامة الحد» على الأيديولوجية، وميزها من الفكر النظري الضروري لإرشاد العمل، وحذر من طغيان النزعة الأيديولوجية وأوهامها الذاتية ونقيضها النزعة الوضعية على الفكر العربي.


جميع الحقوق محفوظة لموقع جامعة الأمة العربية © 2021 - 2013