[ هل قدم العرب فعلاً شيئاً للعالم عبر تاريخهم و حاضرهم ؟ - ماذا قدموا ؟ أو أنهم لم يقدموا شيئاً ، و أنّ كل ما قيل هو مجرد أوهام ؟ وما الدليل ؟] التقارير والمقالات | [ هل قدم العرب فعلاً شيئاً للعالم عبر تاريخهم و حاضرهم ؟ - ماذا قدموا ؟ أو أنهم لم يقدموا شيئاً ، و أنّ كل ما قيل هو مجرد أوهام ؟ وما الدليل ؟]
تاريخ النشر: 21-04-2020

بقلم: اللواء الدكتور بهجت سليمان

 { الحلقة الثانية  والأخيرة }

تنويه :
● تتداول وسائل التواصل الاجتماعي ، هذا التساؤل ، وقد وصلني كما يلي :

{ هل قدم العرب فعلاً شيئاً للعالم عبر تاريخهم و حاضرهم ؟ }

{ ماذا قدموا ؟ أو أنهم لم يقدموا شيئاً ، و أنّ كل ما قيل هو مجرد أوهام ؟ وما الدليل؟ }

 

● وسيجيب عن هذا التساؤل ، الدكتور : بهجت سليمان ،بمقال من حلقتين 

 

9▪︎ تركَ العرب فضلهم على أوربا من خلال تحضّرهم الثّقافيّ الذي أمدّهم به الإسلام المحمّديّ ، فبعد أن هذَّبَ الإسلامُ نفوسَ العرب ، نقلوا هذه الأخلاق المهذّبة إلى الشّعوب الأخرى لكي يتمتّعوا بإحساس المشاركة الحضاريّة بينهم و بين الشّعوب المُضيفةِ فأحسنوا فتح تلك البلاد ، و قدموا إليها أفضل ما تصفه الأخلاق باللين و الكرم و التّسامح مع الأديان الأخرى ، و الأمن و السّلام . يقول ( لوبون ) :
" و لم تكد أقدام العرب تَرسُخ في صقلية حتى أقبلوا على الزراعة و الصناعة ، فانتشلوهما بسرعة من الانحطاط الذي كانتا فيه ، و أدخلوا إلى صقلية زراعة القطن و قصب السكر و الدَّردار و الزيتون ، و حفروا فيها التُّرع و القنوات التي لا تزال باقية ، و أنشأوا فيها المجاري المعقوفة التي كانت مجهولة قبلهم . و تقدمت الصناعة في صقلية بفضل العرب ، و استغلَّ عربُ صقلية ثروتها الطبيعية ، و استخرجوا منها الفِضة و الحديد و النحاس و الكبريت و الرخام و الغرانيت … إلخ ، بأساليب فنية ، و أدخلوا إليها صنع الحرير (...) و انتعشت التجارة ، و اتسع نطاقها أيام العرب بعد أن كانت صِفرًا ، تقريبًا، قبلهم " .
" و تُفسِّر إمامة العرب في الفنون و الصناعات و العلوم سببَ حماية ملوك النورمان لهم ، و كان الرهبان يُعجبون بحذق العرب ، و إن كانوا يَعزُون اكتشافاتهم إلى السحر.." ( حضارة العرب ).
هذا ، و يُضيفُ (غوستاف لوبون) نصّاً إشكاليّاً فريداً يُخالف فيه الكثيرين من المؤرّخين الغربيين " المركزيين " ، مدلّلاً على عمق الأثر العربيّ إلى أقصى الشّمال من إسبانيا ، حين يقول :
" وتُثبت إقامة العرب بفرنسا مدةً تزيد على قرنين بعد شارل مارتل أن النصر الذي أحرزه في (.بواتيه ) لم يكن مهمّا كما زعم المؤرخون " ( حضارة العرب ) ( ص 327 ).

10▪︎ كان لا بدّ من هذا العرض الذي يُضيئ بمِكشافٍ أجنبيّ على حضارة العرب ، و كثيرة غيرُهُ هي الشّواهد في هذا الصّدد ، و لكن يحدّنا ، هنا ، الإشارة و التّكثيف و الاختصار.
يقول ( عبّاس محمود العقّاد ) و هو المرجعيّة في اللغة و الألسن و فن الكتابةِ و أسرار الحروف و الكلمات ، و الأديب و النّاقد و الكاتب العربيّ المصريّ العظيم ، في تفقّه تراث الإنسانيّة الألسنيّ :
" و لا تُستطاع المبالغة فيما استفاده البشر من اختراع طريقة لإثبات المعاني بالحروف ، و إثبات الأعداد بالأرقام ؛ فإن تدوين المعارف البشرية كلها راجع إلى هذا الاختراع النفيس " .
" و مما يقل فيه الخلاف بين المؤرخين والمنقبين أن حروف الكتابة العربية والكتابة الإفرنجية ترجع إلى مصدر واحد ، و أن الأوروبيين اعتمدوا على الكنعانيين أو الآراميين في اقتباس حروفهم الأولى ، و هي مشابهة في لفظها ورسمها لبعض الحروف السامية ، و لا سيّما الألف و الباء و الجيم و الدال، و كلها ذات معانٍ معروفة في لغات الساميين " .
" و معظم الباحثين في هذا الموضوع يُرجحون أن الحروف الكنعانية أو الآرامية تدرجت من حروف مصرية مأخوذة عن الصور الهيروغليفية القديمة ، [ و المسماريّة ، و السّومريّة و أبجديّة شمرا ] وأن اللوحة التي عثر بها سِيرْ فلندر سبتري، في شبه جزيرة سيناء (سنة ١٩٠٦ ) ، تشتمل على النموذج الوسط بين الصّور القديمة و الحروف الأبجدية كما نشرها الكنعانيون و الآراميون . و يقدرون أن هذه اللوحة ترجع إلى أقدم من ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة. و قد كان الآراميون في ذلك العهد يعيشون في شبه جزيرة سيناء ".
" و لعل الصور الهيروغليفية في مصر سبقت مثيلاتها في بلدان العالم لتوافر ورق البردي و مداد الكتابة الثابت في وادي النيل. و لكن الأوروبيين لم يقتبسوا مباشرة من وادي النيل لحرص الكهنة على إخفاء هذه الأسرار .. فلما بلغت من الزمن طور الحروف الشائعة أمكن أن تنتقل إلى جوار مصر في سيناء و تخومها الشرقية ، حيث أقام الآراميون و الكنعانيون " .
" و مما لا شك فيه أن فضل النشر و التعميم لأبناء الجزيرة العربية في هذا الاختراع النفيس ؛ لأنهم نقلوه إلى الأقطار الآسيوية كما نقلوه إلى الأقطار الأوروبية ، فأخذ الهنود حروفهم من اليمن كما أخذ الإغريق حروفهم من عرب الشمال بفلسطين " ( عباس محمود العقّاد.. أثر العربي في الحضارة الغربية ).

11▪︎ من المعروف أنّ ( هوميروس ) أشادَ في " الأوديسا " بأنّ الإغريق تلقَوا شيئًا من الطب الكلداني كما كان في عصوره القديمة مزيجًا من السحر والتعويذ والعلاج ، و أنّ علوماً كالهندسة الأولى المعروفة في التاريخ على تالس و فيثاغورث و غيرهم ، كان مصدرها ما كان يُعرف في العالم القديم بآسيا الصّغرى ؛ و كان هوميروس قد قضى حياته في التّرحال العلميّ التّوثيقي لأحداث و جغرافيا و حكايا و حقائق ذلك المكان الشّاسع و ذاك الزّمان ، و انبهاره أيضاً ، بحضارة شعوب تلك المنطقة ( آرابيا ) و التي تنتهي بحدودها في الجنوب باليمن و نجد و الحجاز ، و في الغرب البحر الأبيض المتوسط و جزيرة سيناء إلى شواطئ مصر على البحر الأحمر ، و في الشّرق و الشّمال الشّرقيّ جبال زاغاروس و طوروس و بلاد المغول و التّتار و بعض الشّعوب الآريّة الأخرى . و " آسيا الصّغرى " ، هذه ، كانت في تلك الحقبة ، في الألف الأول قبل الميلاد ، واقعةً في أقاصي شمالي الدّولة العربيّة ( التي عرفها الإغريق باسم آرابيا ، و التي يتألف شمالها من جبال طوروس و الأناضول ، و التي هي ما يُطلق عليها إسم " آسيا الصّغرى " ) ، و طبعاً كما لا يُقرّ بذلك أنصار القائلين بعرقين ، أصلَينِ، عربيّ و سوريّ !!

12▪︎ و استعان الفرس بأطباء السريان و الروم ، فأنشؤوا المدرسة الطّبيّة و المستشفى
المشهور بجنديسابور ، و كان عليه معوّل الشعوب القريبة كلها في إتمام معارفهم الطبية ، و التوسع في الاطلاع على فنون العلاج عن سائر الأمم ، و من تلاميذه النابهين بين أطبّاء العرب ( الحارث بن كلدة ) الذي تعلَّم الطب في الجاهليّة و أدرك الإسلام.
و نلاحظ أن الأثر العربيّ القديم منه و الكلاسيكيّ و الوسيط و حتّى الحديث ، هو ظاهر على مختلف مفردات حضارة الغرب.
وبرز الكثير من العلماء الأفذاذ ، في إطار الثقافة العربيّة – الإسلامية ، بما نفهمه اليوم من كلمة " علماء " ، و تركوا تأثيرهم الحيّ و المباشر و المستمرّ حتّى عصرنا الحاضر بعلومهم التأسيسيّة التّطبيقيّة التي كانت قاعدة لأهم مخترعات الحاضر . من هؤلاء أو من أبرزهم كان ( أبو عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي ، أبو جعفر ) ، و كان رياضيّاً ، عالم رياضيات ، في الجبر و الحسابيّات و علوم المثلّثات و علوم الأرض ، و عالم جغرافيا و فلك ، و فيلسوف و مترجم و منجّم و مؤرّخ. ذكر في الموسوعة البريطانيّة، و قيل إنه ولد حوالي 164هجرية ( حوالي سنة 780م ) ، و توفي حوالي 232 هجرية ، و عاش في بغداد.
و معروف أنّ "الخوارزميّة" ( أو ما يُعرف في الغرب باللوغاريتم ) هي ، أصلاً ، منهجية خاصّة بناؤها التسلسل والاختيار والتكرار و التّفرّع و التّتابع ، و كل هذا هو ما اعتُمِد عليه في بنية الهيكليّات الرّياضيّة الرّقميّة المعاصرة في "الكومبيوتر" المنتشر اليوم ، و الذي يُعتبر التّرتيب السّريع فيه للقيم العشوائيّة أساساً في معالجة المعلومات المعقّدة وفق أسس تجعل منها منطقيّات بسيطة متكرّرة أو شبه متكرّرة.

13▪︎ يُصوّر أحد أهم المؤرّخين لتاريخ العالم (هـز ج. ويلز) في كتابه الشّهير "موجز تاريخ العالم " ، كيف تفاعلت علوم العرب و ثقافتهم مبكّراً مع روافد الفكر العالميّ و اندمجت فيها و أبدعت خصائص لها فريدة، فيقول:
" قذفت المقادير بالذّكاء العربيّ في طول العالم و عرضه بصورة أسرع و أروع مما فعلت بالعقل اليوناني قبل ألف سنة خلت. لذا فقد عظمت إلى أقصى حد الاستثارة الفكرية التي أحدثها وجودهم للعالم أجمع غربي بلاد الصين ، كما اشتدّ تمزيق الأفكار القديمة و تطور أخرى جديدة ".
" دبّت الحياة في بذرتيّ أرسطو و متحف الإسكندرية اللتين طال العهد على خمودهما و إهمال الناس لهما ، و إذا هما تنبتان من جديد و تأخذان في الإثمار ".
" لقد تم للعرب في حقول العلوم الرياضية و الطبية و الطبيعية ضروب كثيرة من التقدم. فنُبذت الأرقام الرومانية القبيحة و حلت محلها الأرقام العربية التي نستعملها إلى يومنا هذا ، و استعملت علامة الصفر لأول مرة ".
" و لا يخفى أن إسم " الجبر " نفسه لفظ عربيّ ، و كذلك كلمة " كيمياء ". ثم إن أسماء نجوم كنجم الغول و الدّبران و العواء Bootes تحتفظ بذكرى فتوح العرب في أطباق السّماء ، و بفضل فلسفتهم عادت الحياة إلى فلسفة القرون الوسطى بكل من فرنسا و إيطاليا و العالم المسيحي ".
" و لاشكّ أن العرب قد وُفّقوا إلى مستنبطات في المعادن و التطبيق الفني كثيرة و لها قيمة قصوى ؛ فهم الذين عثروا على السبائك و الأصباغ و التقطير و الألواح و العطور و زجاج العدسات" ( ص. ص 205- 208 ).

14▪︎ و نحن إذا كنا توسّعنا قليلاً بما تقدّم من بعض الشّواهد التي لا يخلو منها كتاب تأريخي ( ببليوغرافيّ ) أو تاريخيّ ، فإنّ ذلك ليس على أنّه ليس من باب الإثبات أو البرهان ، في تأثير العرب في حضارات العالم و تأثّرهم بتلك الحضارات و الثّقافات ، و إنما قمنا بذلك من باب " البيان " ، ذلك لأنّنا لسنا أمام محكمة بشريّة ، قضاتها أصحاب مزاج بشريّ .. بل أمام مكمة تاريخيّة ، و علمية ، قضاتها الزمان و المكان.
ومن الطّبيعيّ أن تُستعاد اليوم أفكار التّشكيك بقيمة تاريخ الحضارة العربيّة – الإسلاميّة المحمّديّ التي سطعت بنورها يوماً من أقاصي الشّرق في الصين إلى أقاصي غرب العالم القديم في إسبانيا ، و من فرنسا شمالاً إلى قلب أفريقيا في الجنوب.
و نفهم ببساطة دوافع حملة التّشكيك هذه ، بنيّة و قصد مباشرين ، من أجل مسح ماضي الأمة العربيّة كثقافة و حضارة دانت لها الأرض ، لكي يتمّ تصوير واقع الأمة العربية الصعب اليوم على أنه واقع سطحي و مجرّد قشور ثقافيّة ليست لها في التاريخ جذور.
و هذا جزء من حملات التّشكيك و التّيئيس الحضاري الذي هو اليوم أهم حلقة في الهجوم التّكفيريّ على العروبة و الإسلام.

15▪︎ إنّ السّؤال نفسه ، " هل قدم العرب فعلاً شيئاً للعالم عبر تاريخهم و حاضرهم ؟ ماذا قدموا ؟ أو أنهم لم يقدموا شيئاً و أنّ كل ما قيل وهم ؟ ما الدليل ؟ " ، هو سؤال مُركّبٌ يحمل في طيّاته الكثير من المغالطات التي تؤسّس لشكّ " منطقيّ " يعمل على تكريس ذاته في حُمّى التّفكّك و الضّعف العربيين المعاصرين ، في حذفه الذّاكرة الحضاريّة العربيّة الثّابتة في روح العالَم ، و المستعصية على الزّوال.
و حيث لا يتّسع مجال الحديث هنا لسرديّة تاريخيّة تقرّ بشهادات العلماء و المؤرّخين القدامى و المُحدّثين و المعاصرين الجادّين و الحصيفين في تاريخ الأرشفة و الدّرس السّياسيّ العالميّ ، و هم كُثرٌ ، و لا يُحصَون عمليّاً ، فإنّ الثّوابت الرّاسخة في إسهامات العرب الثقافيّة و الحضاريّة ، في حضارة أو حضارات العالَم ، هي أقوى من أن تقبل عليها أسئلة أو تساؤلات إنكاريّة أو استنكاريّة ، فهذا ممّا هو اعتداء مباشر على الحقائق التّاريخيّة التي تزخر بها صفحات التّاريخ و ذاكرة الشّعوب العصيّة على الانقراض.

16▪︎ لم تكن يوماً حقائق الماضي رهينة بأدلّة مباشرة على الحاضر ، و هو ما ينطبق على الشّعوب و الأمم و المجتمعات و الدول و الحضارات و الثقافات ، و ذلك بالدّرجة نفسها التي ينطبق فيها على الأفراد و الأشخاص ، اللهمّ إلّا في مكابرة النّاكرين الجاحدين للماضي و التاريخ ، و هؤلاء هم من لا يشكّلون في البحث و الدّراسة و التّقرير بالحقائق أيّة مرجعيّة تُذكر في حميّة البحث الجادّ على الحقيقة التي يتناولها الزّمان ، غالباً ، بالوهن و الفتور.
و إذا كان دافع و منطلق التّشكيك بالقيم التاريخية ، و منها دور العرب الحضاري في صناعة تاريخ العالم ، راجعاً لعنصر سياسيّ صريح في النّكران و الإنكار ، فإنّنا لا نرى قيمة للخوض في حديث سياسيّ من الطّبيعة نفسها التي تشكّل حقيقة الأسئلة المشكوك في صدقيّتها و جدّيّتها ، يمثّل ردّة فعل محدودة و غير إراديّة على أسلوب و هدف يستعمل الإثارة السّطحيّة ليغدو مجرّد استثارة طفيفة و ضعيفة تذروها ثوابت التّاريخ.


تنويه | المقالات المنشورة في الموقع تمثل رأي صاحبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي أسرة الموقع

جميع الحقوق محفوظة لموقع جامعة الأمة العربية © 2021 - 2013