طلق هذا المقال من رؤية أساسية مفادها : إننا ف المجالي العربي والإسلامي أحوج ما نكون ف ظل هذه الظروف
والتطورات إلى صياغة إستراتيجية متكاملة للتعامل مع حقيقة التعددية المذهبية الموجودة ف المجتمعات العربية والإسلامية . إستراتيجية لا تتجاهل هذه الحقيقة ومتطلباتها الثقافية والاجتماعية , كما أنها لا تنحبس ف قضاياها وعناوينها الخاصة, بل تنفتح على المجتمع بكل أطيافه وتنوعه , من أجل بناء متحد اجتماعي - وطني , لا يلغي الخصوصيات , ولكنه في ذات الوقت لا ينغلق فيها . وإن أوطاننا جميعا لا تنهض وتعالج مشاكلها وتواجه تحدياتها ,
إلا بوحدتها المستندة على احترام كل التنوع والتعدد الموجود في فضائها الاجتماعي والثقاف والسياسي . والدول الوطن
المعاصرة ف كل أصقاع الدنيا , تنطوي وتحتضن كل التنوعات والتعدديات التقليدية والحديثة , وإن الإدارة السياسية وطبيعة خياراتها , هي التي ستحدد مستوى وعمق الوحدة الوطنية في هذه المجتمعات . فإذا كانت إدارة استعلاء وتجاوز لكل حقائق ومقتضيات ما تنطوي عليه المجتمعات من تنوع وتعددية , فإن الوحدة الوطنية ستكون هشة وشكلية . أما إذا كانت الإدارة السياسية استيعابية ومرنة وتحترم خصوصيات مجتمعها , وتبني خياراتها السياسية على ضوء حقائق وطنها وشعبها , فإن الوحدة الوطنية ستكون صلبة وعميقة . فالوحدة الوطنية لا تبنى على حساب الحريات العامة وتطوير
واستقلال شبكات ومؤسسات المجتمع المدني . وإنما تبنى من خلال هذه الحريات ومؤسسات المجتمع المدني . فهي الأطر
الحاضنة لكل مفاهيم وحقائق الوحدة الوطنية . ومن يبحث عن بناء وحدة وطنية , بعيدا عن قيم الحرية والشراكة والتعددية , فإنه لن يصل إلا إلى شكل الوحدة دون مضمونها , وإلى اسمها دون حقائقها . فحقائق الوحدة وتجلياتها العميقة , لا تبرز إلا بقيم الحرية والتسامح والتعددية وصيانة حقوق الإنسان . فهذه هي بوابة الوحدة الوطنية الصلبة والسليمة ف كل التجارب و الممارسات . ونحن إذ نثير مسألة المذهبية ف فضائنا العام العربي والإسلامي , لإيماننا العميق بأهمية العمل من أجل تفكيك هذه العقدة , التي تثير الكثير من المشاكل والتوترات والحساسيات , كما أنها تستخدم من أجل أغراض سياسية خطيرة من قبل أعداء الأمة وخصومها التاريخيي . فالحاجة ماسة اليوم , لبناء استراتيجية عربية وإسلامية متكاملة للتعامل مع المسألة المذهبية ف أبعادها المتعددة ف المنطقة العربية والإسلامية . وبدون خلق تفاهمات عميقة حول هذه المسائل , سيبقى مجالنا عرضة للعديد من الاهتزازات والتوترات . ونحن نعتقد أن مبادئ معالجة أو التعامل الإيجابي مع حقيقة المسألة المذهبية في العالميي العربي والإسلامي هي النقاط التالية :
-1 إن ثقافة الاستئصال والفصل بي مكونات المجتمع الواحد , على أسس طائفية ومذهبية , لا يبني استقرارا , ولا يحرر المجتمعات من عقدها وتوتراتها التاريخية والمعاصرة . وإنما يزيد من أوار التوتر , ويفاقم من مشكلات المجتمع , ويحول دون بناء وحدة اجتماعية ووطنية حقيقية . وأحداث التاريخ تعلمنا أن المجتمع الذي يحتضن تعدديات وتنوعات , لم يب استقراره بنهج الاستئصال والتهميش وبناء الكانتونات المنعزلة , وإنما ت بناء الاستقرار , بثقافة الاستيعاب والمرونة السياسية , وتنمية الجوامع المشتركة , وبناء العلاقة على أسس المواطنة المتساوية , واحترام قانوني وثقاف لكل الخصوصيات والحيثيات
والمنطقة اليوم حيث تكثر العناوين المذهبية , وتتزايد التوترات السنية - الشيعية ف أكثر من موقع عربي وإسلامي , أحوج ما تكون إلى ثقافة الوصل والاستيعاب , وتفكيك نزعات الغلو والتطرف ومحاولات المفاصلة الشعورية والعملية بي أبناء الوطن الواحد على أسس طائفية ومذهبية . ونحن إذ نتحدث عن المسألة المذهبية ف منطقتنا , فهو من أجل البحث عن حلول ومعالجات واقعية لهذه المشكلة , والتي بدأت في الآونة الأخيرة بالتمدد وأخذ عناوين خطيرة تهدد الاستقرار
فالقوة لا تبنى بالقتل أو التهجير أو خطابات التكفير واستعداء السلطات الدينية والسياسية , وإنما باحترام التعدد والتفاعل
الإيجابي مع حقائقه ومقتضياته , والابتعاد عن المكايدات والمشاحنات التي لا طائل من ورائها , والمساهمة الجادة ف بناء
وحماية أسس العيش المشترك .
-2 إن الوقائع الطائفية التي نسمع عنها ف العديد من البلدان
العربية والإسلامية , ليست مدعاة للاصطفافات الطائفية والتمترسات المذهبية , وإنما هي مدعاة للوحدة وبناء حقائق
الائتلاف والتلاقي بي مختلف التكوينات المذهبية , وخلق الإرادة العامة والجماعية لمعالجة تلك الوقائع الطائفية المقيتة
فليس مطلوبا من الواعي من أبناء مجتمعنا وأمتنا , وف ظل هذه الظروف الحساسة , التمترس المذهبي , والتخندق الطائفي ,
وإنما المطلوب هو العمل على معالجة كل الوقائع الطائفية , التي تضر الجميع ولا يربح فيها أحدا . فحينما نسمع عن اقتتال سني- شيعي ف العراق على سبيل المثال , فهذا ليس مدعاة للسني
أو الشيعي للتخندق المذهبي , وتسخيف خطاب الاعتدال والوحدة , وإنما هو مدعاة لتظافر جهود كل الواعي من المجتمع
والأمة , للعمل معا بعيدا عن نزعات الاصطفاف والتخندق لمعالجة حالة الاقتتال الطائفي . فالمسألة المذهبية ف الأمة , مع متوالياتها المختلفة , لا تعالج بالانكفاء والعزلة , ولا تعالج بتوتير الأجواء وخلق الخطابات المتشنجة التي تزيد المشكلة اشتعالا . وإنما تعالج بالوعي والحكمة والإرادة العامة التي تفكك الأزمة والمشكلة , من موقع التعالي عن الاصطفافات الضيقة . فنحن ينبغي أن نكون جزءا من الحل , وليس جزءا من المشكلة . إننا مهما كان الوضع على الصعيد المذهبي صعبا ومتوترا , ينبغي أن نستمر ف حمل مشعل الوحدة والتفاهم والتلاقي والتسامح والاعتراف والاحترام المتبادل .
-3 لا ريب أن العلاقة السنية - الشيعية , تتغذى سلبيا في علاقاتها وحساسياتها , من جراء تباين الرؤية والموقف من التاريخ وأحداثه ورجاله . بحيث نستطيع القول : أن العلاقات المذهبية ف كل مراحلها , تستدعي التاريخ , وتبقي موضوعاته وأحداثه , هو أحد المجالات الخصبة للجدال أو السجال أو الحوار . وما نود أن نقوله ف هذا السياق , إننا اليوم لا نستطيع أن نلغي أحداث التاريخ وتطوراته المتعددة , كما إننا لا يمكن أن تتطابق وجهات نظرنا ف كل أحداث التاريخ ورجالاته . لذلك فإن المطلوب على هذا الصعيد هو أن يحترم كل منا قناعات الآخر . ومن أبرز مصاديق هذا الاحترام هو عدم الإساءة إلى الرموز التاريخية لبعضنا البعض . فليس مطلوبا أن تكون رؤيتنا واحدة ومتطابقة من أحداث التاريخ ورجالاته , ولكن المطلوب هو أن نحترم قناعات بعضنا البعض التاريخية , ونمنع كل عمليات الإساءة التي تتعرض إليها بعض الشخصيات التاريخية من هذ ا الطرف أو ذاك . وإذا نزعنا الحساسية المذهبية من قراءة التاريخ وأحداثه , تبقى الفرصة مواتية وسانحة , للدخول ف حوارات علمية وموضوعية عن تاريخ العرب والمسلمي وفصوله , بعيد ا عن المماحكات المذهبية أو الحساسيات الطائفية . فما جرى في التاريخ جرى , ولا يمكن أن نوقف حركة التاريخ , ولعوامل ذاتية وموضوعية عديدة , تباينت وجهات النظر والرؤية ف أحداث التاريخ , ولا يمكن أن نفرض على الناس رأيا واحدا أو موقفا واحدا , ولكن ما نستطيع القيام به , ونطالب به جميع الأطراف هو عدم الإساءة إلى بعضنا البعض بقول أو بفعل . فنحن مع الحوار وحرية البحث العلمي والتاريخي , ولكننا ضد الإساءة إلى رموز ومقدسات الآخرين . ونحن نعتقد أن الالتزام بهذ ا المبدأ [ عدم الإساءة إلى بعضنا البعض ] , سيساهم إلى حد
كبير ف خلق مناخ نفسي واجتماعي وثقاف إيجابي يفضي إلى مبادرات وخطوات تقريبية ووحدوية ناجحة ومتميزة .
-4 إن الخطابات الأخلاقية والوحدوية بوحدها , لا تعالج المشاكل المذهبية والطائفية الموجودة ف العديد من الدول والبلدان العربية والإسلامية . وثمة ضرورة فائقة لإسناد هذه الخطابات والتوجيهات الأخلاقية , بسنّ منظومة قانونية متكاملة , تجرم وتعاقب كل من يسيء إلى مقدسات الآخرين . فمن حق أي إنسان , أن يعتز بقناعاته ومواقفه ومتبنياته الأيدلوجية والفكرية , ولكن ليس من حقه أن يسيء إلى قناعات وعقائد الآخرين . ولكي يتم ضبط نزعات الغلو والاستئصال التي تصيب كل الأطراف بدون استثناء , من الأهمية سن القواني التي تعاقب كل مواطن وإنسان , يسيء إلى عقائد ومقدسات الآخرين . والمجتمعات الإنسانية التي أصيبت بنزعات العنصرية المقيتة , لم تتمكن من القضاء على هذه الآفة الخطيرة , إلا بتجري ومعاقبة صاحبها . ولا يمكن لنا ف الدائرة العربية والإسلامية , من إنهاء معضلة الطائفية وخطابات التكفير والإلغاء وبث الكراهية , إلا بسن قوانينواضحة وصريحة , تعاقب كل من يساهم ف الإساءة إلى
مقدسات الآخرين , أو يمارس تمييزا مقيتا ضد المواطني على أسس طائفية أو مذهبية أو ما أشبه ذلك . لهذا فإننا ندعو كل الدول العربية والإسلامية , والتي تحتضن في مجتمعها تعددية مذهبية , إلى الإسراع ف سن القواني , التي تجرم أية ممارسة تمييزية بي المواطني على أسس مذهبية , وتحث من موقع القانون والإجراءات الدستورية والإدارية إلى الدمج بين المواطني , وجعل قاعدة العلاقة على كل المستويات هي قاعدة المواطنة بصرف النظر عن الانتماء المذهبي للمواطني . إننا نعتقد أن هذه العناصر والمبادئ , تساهم إذا توفرت الإرادة السياسية والاجتماعية الصادقة , ف خلق بيئة سياسية وثقافية واجتماعية مناسبة , لإدارة حقيقة التعددية المذهبية في مجالنا الإسلامي , على أسس جديدة , تخرجنا جميعا من أتون التوترات والهواجس الدائمة . وإننا بذات القدر الذي ندعو إلى الإنصات إلى حقيقة التعددية المذهبية , وتلبية متطلباتها الثقافية والاجتماعية , بذات القدر نرفض رفضا قاطعا , تأسيس العلاقات بي أبناء الوطن والمجتمع الواحد على أسس طائفية . فنحن مع الانفتاح القانوني والسياسي والثقاف في كل بلداننا العربية والإسلامية على واقع التعددية المذهبية , وحماية هذا الواقع قانونيا وسياسيا وثقافيا , وضد الطائفية ونزعات الانكفاء الطائفي بكب مبرراتها وأشكالها . والمطلوب عربيا من كل الجهات والأطراف , تفعيل أسباب الاندماج وتقوية عوامل الوحدة المستندة على احترام التعدد والتنوع , واعتصام الجميع أكثريات وأقليات بأوطانهم ومشاريعها الوطنية .. وذلك لأن الانحباس والتخندق ف ظل عناوين ما دون الوطنية , هو يضر بالجميع , ويحول المجال العربي بأسره إلى
كانتونات متحاجزة ومتصارعة مع بعضها البعض . فلا خيار أمام الأقليات والأكثرية ف المجال العربي, إلا الاعتصام بالوحدة الوطنية, والعمل على حمل هموم وتطلعات المشروع الوطني, ومعالجة كل المشاكل والتوترات ف سياق الوحدة والإصلاح الوطني. وأحدث العراق بكل عناوينها وتفاصيلها ماثلة للعيان . فهو لا يحكم بمشروع طائفي أو مذهبي مغلق , أو باستفراد نخبة سياسية أو عسكرية أو اجتماعية بالحكم والسلطة , وإنما هو يحكم بجميع أبناءه . وبمقدار ما يتمكن الشعب العراقي من الاعتصام بوطنه ووطنيته , بذات القدر يتمكن من هزيمة كل المشروعات المضادة والمناقضة لمصلحته واستقراره السياسي السليم.. فالأوطان جميعا لا تحكم بمشروعات طائفية خاصة , وإنما تحكم بمشروع وطني يستوعب كل مكونات الوطن , ويفسح المجال القانوني والسياسي لكل التعبيرات للمساهمة الفعالة في مشروعات البناء وتعزيز التلاحم الوطني .. والأكثرية العددية هنا , ينبغي أن لا تكون سببا للبطش والطغيان والاستئثار والاستفراد . والأقلية أيضا ينبغي أن لا تتحول إلى عنوان سياسية للتدخلات الأجنبية أو توهي الاجتماع السياسي العربي .. فكل الأطراف تتحمل مسؤولية ف وأد الفت الطائفية , وإنهاء كل التوترات التي تسئ إلى المجال العربي في حاضره ومستقبله . ولعل المطلوب والمرتجى من كل الأطراف والتعبيرات اليوم , حمل وتبني المشروع الوطني الجامع والعادل , ويشترك الجميع ف الدفاع عنه وحمل أعباء تنفيذه والوصول إلى تطلعاته . فمن حق المغبون بصرف النظر عن دينه أو مذهبه أو
قوميته أن يطالب بإنصافه , ويطالب ويلح ف الطلب لتحقيق مطلب العدالة والإنصاف . ولكن من الضروري أن يتم كل هذ ا بطريقة لا تنزع عن هذه المطالب صفتها الوطنية العامة , وبذلك يسهمون من مواقعهم كمواطني ذوي حقوق ومطالب وطنية .. ومن الضروري اليوم وف كل الأوطان العربية , العمل على صياغة مشروع وطني متكامل , يستهدف بالدرجة الأولى تفكيك كل الأسباب والعوامل الموجبة للافتراق والانقسام الداخلي , وإنتاج حقائق حيوية للمزيد من التلاقي والتلاحم بعيدا عن العصبيات التي تحولت اليوم إلى وباء تهدد المجال العربي بأسره . والنخب العلمية والثقافية تتحمل مسؤولية كبرى اليوم , لوأد الفتنة الطائفية وصياغة رؤية جديدة ف التعامل مع حقائق التعددية الدينية والمذهبية الموجودة ف الفضاء العربي .. ووجود وقائع طائفية ف هذا البلد العربي أو ذاك , ينبغي أن لا يدفع النخب الدينية والثقافية إلى الاصطفافات الطائفية , وإنما للعمل من أجل معالجة هذه المشكلة وليس الانخراط فيها والمساهمة ف تأجيجها .. فالمجال العربي اليوم , يعيش لحظات حساسة وخطيرة على أكثر من صعيد , وتتطلب من جميع الأطراف التعامل مع كل هذه
المخاطر والتحديات بوعي وحكمة , حتى نتمكن جميعا من عبور هذه اللحظات بأقل خسائر ممكنة ..والبحث عن الهويات الذاتية, بعيدا عن الكيانات الوطنية , سيفضي إلى المزيد من الفوضى وتراجع مستويات الاستقرار السياسي والاجتماعي . وذلك لأن هذا البحث سيطلق ديناميات من صراع الهويات الصغرى , وتشبث كل طرف بمواقعه ومكاسبه , مما يحول الجميع ضد الجميع على قاعدة الانتماءات التقليدية ..
وجماع القول : أن المجال العربي من أقصاه إلى أقصاه , يعيش مجموعة من التحديات ومن أخطرها الفتنة الطائفية . وإن
مواجهة هذه الفتنة تتطلب من جميع الأطراف ( الدولة بمؤسساتها المختلفة , والمجتمع المدني بنخبه ومؤسساته ) العمل
على وأد هذه الفتنة , عبر خلق وعي عربي متكامل تجاه هذه المسألة , ومعالجة بعض التوترات الطائفية التي تعانيها بعض المجتمعات العربية , وخلق الحقائق السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي تصون الوحدة الوطنية وتحمي
مكاسبها المتعددة , وتسريع وظيفة التضامنات الداخلية , التي تضبط النزاعات , وتنظم التباينات , وتحرر الأمزجة الشعبية والأهلية من ضغط العصبيات الطائفية , وتعمل على تنمية المشترك الإنساني والديني والوطني ..