أكتب هذا النص على أجنحة الخوف من الموت المحتّم الذي لا لغات ولا حول ولا قوة ولا إمكانات لالتقاط أسبابه وبداياته وضخامة صواريخه وأصواته وتراكم قتلاه ونتائجه الكارثية ولبنان يرتجف أمامي ليصعب وصفه أو توصيفه.
توصيفه؟ من هو القادر على وصف هذا القصف الذرّي المتبادل بالصواريخ الذكيّة في البقعة الخضراء اللبنانية الحزينة ؟ أهو الذكاء الاصطناعي الذي أدهش ويُدهش العالم وقد أسميته صناعة الذكاء الشيطاني الذي نعاينه مع العالم يضرب كفّاً بكفّ متابعاً التوحّش في انهيارات المدن وبعثرة الجغرافية فوق ساكنيها؟ أيّ ذكاء بشري هذا الذي يغور بالأحياء في قاع الأرض أشلاءً ترابية ويرمي الناس عراة يركضون بسرعة نحو الطرقات والساحات تحت المطر وفي الجوع والعطش بينما ينزلق بعضهم عبر طائرات بيروت نحو الفضاء.
ماذا يعني البحث بعد عن تعريفِ أو توصيفات ما سُمّي أساساً «حرب المساندة» لحرب غزّة وقد بتنا نبحث عن تسمية جديدٍة لها؟ كنا وما زلنا نسمع عن «حربٍ محدودة» أو «خاطفة» أو «استباقية» أو «خفيّة» أو«ردعية» أو «مقنّعة»، وغيرها من التسميات في الاشتقاق اللغوي الثلاثي الذي يفرزه لساننا العربي وكلّها تندرج تحت خانة واحدة: «الحرب هي الحرب»... لكنّ الحرب السيبرانية التي نعيشها وكأنها «القيامة» تتجاوز ما عرفناه. ليست الحرب ولم تكن يوماً ربحاً وليست حبراً، ولن تكون وما كانت يوماً رحبة أو مرحباً بها، وهي على الأغلب بحور دماء وأحزان ومآتم وغيظ يبدو الإنسان فيها مريضاً بلعبة السلطات ونشواتها لكنّه عبر حرب اليوم يبدو مسكوناً فعلاً بالإلغاء السريع بلا دماء.
تدفعنا تلك المشاعر البشرية والمشاهد الغريبة المرعبة التي نعيش تحت الأدراج في العتمة اللبنانية إلى إلصاق صفة الأسطورة الجديدة أو الخيال السيبراني الجديد الذي يبدو فيه قادة الجيوش والمقاتلون في تقاذف الصواريخ على أنّهم أو كأنّهم يضعون أقنعة لم نشهدها فوق وجوههم لكأن الحقائق لا تتكشّف إلاّ عندما يضع القائد أو المقاتل الخفي قناعاً فوق وجهه ليبتعد عن ذاته ومجتمعه ليصبح مُحيّراً أسطورياً لمن حوله.
يختلط الواقع بالخيال الأسطوري في الحروب الصاروخية السيبرانية التي نعيش في لبنان وكأنها تشابه الألعاب التي يلعب بها أولادنا وأطفالنا متشبّثين بأجهزة الخلوي لآبائهم وأمهاتهم لتمتزج صور «سبايدرمان» وأشباهه الحاملة نماذج من الدلالات أو المعاني الأسطورية الخارقة للسلوك الفائق القوة، فتخفّ وطأة الصور أو تقوى كثيراً بما يغمرنا بالاستفزاز والغضب والنشوة، وربّما القفز نحو ردود الفعل والمواقف الحامية التي نشهدها لدى الكائنات الأخرى أو الأبطال الخياليين يملؤون شاشات التلفزة المختصّة بعلم نفس الحيوانات المفترسة وسلوكها العلائقي الذي يتجاوز الخيال في البطش.
ذهلتنا مشاهد الحروب في لبنان المسكين والشاغلة للعالم بشاشاته اللامتناهية وجذبتني تاريخيّاً إلى تلك البقعة الصغيرة المحصورة بين جبال الألب والبحر الأسود وجبال البلقان وتقع رومانيا في وسطها حيث كان مسقط الأمير فلادتيبس الرابع المعروف بدراكولا أي مصّاص الدماء الذي نراه في الأفلام كائناً ليلياً يفرّ من الضوء.
ولو قسنا من لبناننا اليوم مجدداً المسافة بين القدرة الراهنة على الإبادة من دون التقاط مشاهد الدم، بل الحفر والدمار الهائل باستعمال صواريخ الدمار الشامل لعاينا تاريخاً يُضاعف غريزة العنف التي لازمت وتلازم البشر. لم يكن العنف الدموي مسألة عرضيّة أو حتميّة دائمة، لأنّه منذ سقراط، مثلاً، الذي تجرّع الموت سمّاً، إلى المهاتما غاندي الذي امتشق اللاعنف لتحرير بلاده من بريطانيا، كان هناك طرائق أخرى نادرة للمواجهة والمصالحة، لكن الحق بخوض الحروب تستمرّ حاجة بشرية طاغية لكأنها مكرّسة بالقوانين، نجدها في اتفاقيتي لاهاي (1899 و1907) وفي اتفاقيّة جنيف بعد الحرب العالمية الثانية (1949) كما في بروتوكول جنيف الأخير (1977).
الحروب هي الحروب، مع أنّها ولّدت منظومات خيالية من الابتكار - الانهيار الذي يفرّغ الموت من معانيه أمامنا ويطرح فكراً بشرياً يتحرّر من «عبودية» الجسد، لتتمكن الآلات من البرمجة ووضع تصاميمها وإعادة بنائها في منافسة للعقل والمشاعر والتفوق على قوته في مرحلة ثانية.
يعني هذا للأسف، وضع أدوات لحروب فائقة الذكاء قادرة على إنتاج ذاتها بذاتها إلى ما لا نهاية وفق ظاهرة الإلكترونيات وصناعة الطائرات من دون طيّار تتعاطى مع أبعاد للجزئيات أو الذرات مسموح من 1.0 إلى 100 نانوميتر أي واحد من مليون من المليمتر حيث يتكفّل الذكاء الاصطناعي، الذي أرغب بتقزيمه في مقالٍ قادم، بتجميعها هيدروجينياً أو كيميائياً عندما تجعلها الحركات الحرارية تحتك ببعضها بعضاً. يبنى هذا العلم الحربي على التعاطي بمهارة بالجزئيات، وفق علوم هي مزيج من الكيمياء والفيزياء والهندسة قادرة على إيجاد آلات تصنّع آلات أصغر حجماً منها، وكلّها بإدارة الكومبيوتر سلطة السلطات التي تتمكّن منها الدول العظمى. إنّه إدارة علم الحروب الصاروخية بالذرات والسلطة العالمية التي تروج للذكاء الذري، ومعه نشهد خطى سريعة نحو الآلات التي تعيد إنتاج ذاتها ونجاحاتها إلى ما لا نهاية نحو نهايات يصعب من خلالها فهم مستقبل البشرية.