مظاهرات فرنسا، لماذا الآن؟ التقارير والمقالات | مظاهرات فرنسا، لماذا الآن؟
تاريخ النشر: 16-12-2018

بقلم: أ.د. أحلام بيضون
المظاهرات الشعبية التي تحصل في فرنسا هذه الأيام لا تختلف كثيرا عن أي مظاهرات حصلت في البلاد العربية إلا بقدر ما أن فرنسا تعد من البلدان المتقدمة، والبلدان العربية تعد من بلدان العالم الثالث. فهل سيتمكن الفرنسيون من توجيه الإحتجاجات باتجاه التغيير الفعلي، أم أن الأمور ستطور، على غرار ما حصل في البلدان العربية، إلى خراب البلاد؟
1- البعد الإجتماعي الداخلي للمظاهرات:
أن المظاهرات حصلت من قبل مواطنين يحتجون على إدارة شؤون البلاد، دون أن يكونوا منتمين بالضرورة إلى حزب معين. إنها احتجاجات شعبية عفوية، نزل أصحابها إلى الشوارع كي يضغطوا على حكومة تمادت في التضييق على الطبقة المتوسطة والفقيرة لصالح الطبقة الغنية. وهذا أمر لم يعتده الشعب الفرنسي، وغيره من الشعوب الأوروبية، أو أن الفروقات الإجتماعية لم تكن واضحة، حيث أن الأنظمة الديموقراطية، واستغلال ثروات العالم لصالح تلك الشعوب عن طريق الإستعمار أو هيمنة الشركات الكبرى، جعلها تعيش في رفاه لمدة لا بأس بها من الزمن. غير أن الحال بدأ يتغير مع الأزمة المالية الأميركية، وانسحابها على أوروبا، تلك البلدان التي لا زالت تعيش تحت سيطرة الإدارة الأميركية، التي كان لها الفضل في تخليصهم من الهتلرية.
إن صعود ترمب في الولايات المتحدة قد زاد في الأمور بلة في أوروبا المتأزمة أصلا، فقد أصبح ابتزاز حكومات تلك البلدان أكثر وضوحا واتساعا، وراح الرئيس الأميركي، على خطى سلفه بوش الصغير، الذي وصف أوروبا بأنها "القارة العجوز"، وهو يقصد ما يقول، فهو يشعر الأوروبيين بفضل بلاده عليهم، أما ترمب فقالها بصراحة، إن بلاده هي التي تحمي أوروبا، وأنها تتكلف مبالغ طائلة، وأنه يجب أن تدفع لبلاده مقابل حمايتها، تماما كما يفعل بالنسبة للبلاد العربية، حيث يريد أن يسرق ثروات شعوبها مقابل إبقاء الحكام الذين يتعاونون معه في السلطة.
تزامن كل ذلك مع وصول ماكرون إلى السلطة في فرنسا، وماكرون معروف من أي خلفية أتى فهو كان يعمل لصالح مؤسسات روتشلد المالية، يعني هو من بيئة المتحكمين بالرأسمال العالمي، تلك البيئة التي يطلق عليها إسم "الحكومة الخفية العالمية"، والتي تؤثر بالسياسة الدولية. لقد وعد ماكرون الفرنسيين بمستقبل زاهر، عبر حزب "السير إلى الأمام"، غير أنه حاول استغلال منصبه لصالح الشركات المالية والإقتصادية الكبرى، فخفض عليها الإلتزامات المالية، مما أثر على الطبقات الفقيرة، التي تعيش على الدعم الحكومي لها من خلال ما تقدمه من تسهيلات ودعم إجتماعي "allocation familiale".
لقد جاء مشروع مكرون للحفاظ على البيئة من خلال زيادة الضريبة على الديزل، واعتماد السيارات الكهربائية، ليكون الشرارة التي أوقدت النار. الحقيقة هنا أن الفرنسيين لا يحتجون على مشروع الحفاظ على البيئة الذي يرفضه ترامب، إنما ما يهمهم هو زيادة الضغوط على جيوبهم.
2- فوضوية الإحتجاجات أو تنظيمها؟
المظاهرات الفرنسية هي احتجاجات شعبية غير منظمة، تم التنسيق بين من نزل إلى الشوارع إما بلقاءات شخصية، أو من خلال وسائل التواصل الإجتماعي، كما حصل بالنسبة للشعوب العربية، وهي تفتقر إلى قيادة موحدة، مما يجعلها فوضوية، ويفسح في المجال أمام جهات أخرى أن تستغل الحراك من أجل أهداف مختلفة تماما عن المطالب الشعبية. لذلك نجد أنها أصبحت تضم أشخاصا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، من أتباع الجبهة الوطنية وزعيمتها (مارين لوبين)، إلى اليسار وزعيمه (ميلانشون) الذي نافس ماكرون على رئاسة الجمهورية. طبعا الأهداف لسيت متجانسة بين الجميع وإن تشابهت في بعض الوجوه، إنما الخطر ليس هنا، بل هو يكمن في إمكانية اندساس جهات غير منضبطة، أو أطراف من أهدافها تأزيم الوضع، أو حتى إرهابيين محركين من الخارج، وهنا يكمن الخطر الأكبر. فهل سيتمكن الفرنسيون أو ما يسمى "السترات الصفر" من تنظيم أنفسهم، وإيجاد قيادة موحدة لتحركاتهم؟ الأحتمال وارد بسبب إنضمام جهات سياسية من أحزاب ونقابات للحراك، غير أنه صعب الحصول بسبب تناقض تلك الجهات.
3- البعد الخارجي للأزمة الفرنسية
لقد قلنا سابقا أن أوروبا من بينها فرنسا، لا زالت تحمل عبئ الماضي، وهي ترضخ للهيمنة الأميركية، بسبب تدخل الأخيرة لإنقاض البلاد الأوروبية من سيطرة الألمان في الحرب العالمية الأولى والثانية، ولا تزال الإدارة الأميركية تتدخل في كل صغيرة وكبيرة، فأحيانا تحشر دولا أوروبية في حروب ضد شعوب العالم الثالث، وأحيانا تضغط لإلقاء القبض على شخص ما، أو تركه في السجن، كما حصل بالنسبة للمناضل اللبناني جورج إبراهيم عبد الله، حيث أنهى مدة حبسه حسب الحكم الصادر بحقه، لكن الحكومة الفرنسية أبقته في السجن بناء على تعاليم الإدارة الأميركية لأنها تعتبر أن ذلك من ضمن محافظتها على أمن إسرائيل، التي لا زالت تشكل إحدى أولوياتها.
طبعا، كثر حديث ترامب منذ وصوله عن تدفيع الدول التي يحميها، والتي تدين له بوجودها وأمنها، بما فيها الدول الأوروبية. غير أن الدول الأوروبية بدأت تتململ من سلوك تلك الإدارة معها وابتزازها لصالحها، أو تأثير سياستها عليها، خاصة ما حصل بالنسبة للأزمة المالية الأخيرة وانعكاس ذلك على الأوضاع الأوروبية. ثم جاء تنكر الإدارة الأميركية للإتفاق النووي مع إيران، والذي بذلت الدول الأوروبية جهودا كبيرة في سبيل إبرامه، فزاد الشعور بالتململ. وقد كان للموقف الأوروبي الرافض لإلغاء الإتفاق مع إيران وقعا سيئا عند الرئيس الأميركي، الذي زاد من لهجته التهكمية على أوروبا، واستهانته بها، على منوال ما يفعل مع السعودية، غير أن الأوروبيين حاولوا أن يخففوا من وطأة الهيمنة الأميركية على قراراهم، فتمسكوا بالإتفاق الإيراني، وحاولوا التخلص من محاولات ترامب لفرض عقوبات على الدول أو الشركات التي تخرق العقوبات التي تم فرضها من جديد على إيران، في محاولة لإرضاخها. أما العصيان الثاني بالنسبة للأميركيين والذي قسم ظهر البعير، فيتمثل بالمحاولة الأوروبية للتفلت من الهيمنة العسكرية الأميركية من خلال حلف الناتو، فتداعت، خاصة من قبل إلمانيا وفرنسا، إلى إنشاء جيش أوروبي يحمي القارة ضد الصين وروسيا والولايات المتحدة، كما ورد على لسان ماكرون ذاته في ذكرى الإنتصار في الحرب العالمية الثانية، ورفض ترامب ذلك علنا. إذن ماذا كان دور الإستخبارات الأميركية فيما يحدث في فرنسا، تلك المخابرات الحاضرة دوما لإفتعال الفتن والحروب حيث تشاء، بعد أن تغير الأسلوب الأميركي من التدخل المباشر إلى إيقاد نار الفتن الداخلية، أو ما يسمى السياسة الناعمة، أو سياسة التحريض، ولم يتأخر ترامب عن تزكية تلك المظاهرت، حيث رد وزير الخارجية الفرنسي باعتبار ذلك تدخلا في الشأن الداخلي الفرنسي. وبما أنه حيث تحضر أميركا تحضر إسرائيل أو العكس، فلا نستبعد دورا هاما للموساد الإسرائيلي، حيث أن من مصلحة إسرائيل الخراب أينما استطاعت لأن ذلك يلهي العالم عن طبيعة كيانها ونظامها العنصري والجرائم التي ترتكبها علنا أو في الخفاء ضد الشعب الفلسطيني أو اعتداءاتها المتكررة ضد بلدان الدوار العربي، هذا من جهة من جهة ثانية، ربما تستغل إسرائيل الأحداث لإستقدام مزيدا من اليهود الفرنسيين إلى الأرض المحتلة.
ما تقدم يظهر لنا مدى التشابه بين ما يحصل في فرنسا وبين ما حصل في البلاد العربية، وأبعاده الداخلية والخارجية، فهل سيتمكن الفرنسيون من إيصال بلادهم إلى بر الأمان دون إسالة دماء وخراب، كما حصل في البلاد العربية، وهم من يصنفون في مقدمة البلدان المتقدمة، ومصدري مبادئ حقوق الإنسان، أم أن السياسة الدولية ستجعل من بلادهم مستنقعا جديدا، عن طريق "لبننة" فرنسا كما لبنن العراق وسوريا وغيرها، كما ورد على لسان أحد المسؤوليين الفرنسيين في مناسبة تعليقه على المظاهرات؟ وهل أن ما يجري في فرنسا سيمتد إلى بقية الدول الأوروبية، وقد كانت أول دلائله ما حصل في بروكس أو هولندا أو تحرك عمال السكك الحديدية في إلمانيا؟
أسئلة برسم المستقبل القريب.

تنويه | المقالات المنشورة في الموقع تمثل رأي صاحبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي أسرة الموقع

جميع الحقوق محفوظة لموقع جامعة الأمة العربية © 2021 - 2013