تطرق الرئيس بشار الأسد، فيما تطرق إليه، في خضم صولته الفكرية العصماء في الكلمة التي ألقاها في الاجتماع الدوري لوزارة الأوقاف السورية في جامع العثمان في 7/12/2020، تحديداً ما بين الدقيقة 59:45 والدقيقة 1:10:40، إلى ثلاث مسائل مترابطة هي: 1) عروبة سورية، 2) عروبة القرآن الكريم، و3) عروبة الرسول (ص). وينبع ترابط تلك المسائل الثلاث من نسبتها جميعاً، سورية والقرآن والرسول (ص)، من قبل البعض، لأصلٍ سرياني.
وإذا كان من الواضح، كما بيّنا في مواد سابقة (انظر مثلاً "العربية والسريانية في بلاد الشام أختان لا عدوتان")، أن بلاد الشام شهدت تعايشاً عربياً-سريانياً (وازدواجية لهجة) قبل تحريرها من الاحتلال البيزنطي، وأن الحضور العربي في شرق بلاد الشام وجنوبها بالذات، وفي المدن، لم يكن طارئاً، ولم يهبط عليها فجأة مع الإسلام، كما في حالتي الغساسنة والتنوخيين من قبلهم مثلاً، وأن السريانية مرحلة، سبقتها الآرامية التي ولدت منها، سبقتهما المرحلتان العمورية والكنعانية، وأن كلاً من تلك المراحل انحدر ثقافياً ولغوياً وجغرافياً وسلالياً من البوتقة العربية القديمة ذاتها، التي أطلق عليها المستشرقون تعبير "سامية" التوراتي، فلا تعود ثمة مشكلة بعدها قطُ في الحديث عن مرحلة سريانية في بلاد الشام، تشكل جزءاً من تسلسلٍ تاريخيٍ عظيم وعريق، جرت فيه قبل الآراميين مراحل أخرى، ثم أتت العروبة الحضارية لتتوجه، وكله نباتٌ أصيل، من أرومة واحدة، تختلف نوعياً عن الاحتلال البيزنطي على مدى ألف عام، أو الاحتلال الفارسي لبلاد الشام وغيرها أيام قوروش وأبنائه.
أما نسبة القرآن الكريم لأصلٍ غير عربي عدناني، وهو الزعم الذي رد عليه الرئيس الأسد في كلمته في جامع العثمان، فيما رد عليه، فذلك ما نلتفت إليه في السطور التالية، ولكن قبل ذلك لا بد من التذكير بأن العروبة في مفهومنا (وفي مفهوم علماء العصر العباسي ومفكريه، كما أظهر د. عبدالعزيز الدوري في "التكوين التاريخي للأمة العربية: دراسة في الهوية والوعي" (1985))، هي عروبة الثقافة واللغة والهوية، لا عروبة الأصل السلالي، ومع ذلك، من ذا الذي يستطيع أن يجادل في عروبة النبي العربي في ثقافته ولغته وهويته وأصله؟! وهي مسألة حسمها القرآن الكريم على كل حال إذا أخذنا بعين الاعتبار الآية التي تقول: "ما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسان قومه ليُبين لهم" (إبراهيم: 4)، ومن ثم أكثر من عشر آيات تؤكد على عروبة القرآن (ابحث عن مادة "العربية والعروبة في القرآن الكريم" لكاتب هذه السطور)، فكيف يكون القرآن عربياً ويكون الرسول الذي أرسل به غير عربي؟!
لكن البعض يصر على أن القرآن ذاته غير عربي، وأنه "مترجم"، بدلالة وجود كلمات آرامية أو سريانية فيه...
من حيث المبدأ، ليس من المستغرب أن توجد بضعُ كلماتٍ آرامية سريانية في القرآن بالنظر للتفاعل الكبير والمستمر بين اللهجات العربيات (المسماة "سامية") المتداولة في المنطقة. وثمة كلمات كنعانية وحبشية وفارسية ويونانية ولاتينية في القرآن أيضاً، فهل يجعل ذلك من القرآن كنعانياً وحبشياً وفارسياً ويونانياً إلخ... أيضاً، أم سريانياً فقط يا ترى؟
من أين جاءت فكرة "سريانية القرآن"؟
لكن القصة لا تتوقف هنا، فالقول إن معظم ألفاظ وتعابير القرآن الكريم من أصلٍ آرامي سرياني، ليست فكرة سورية، ولم يتم الترويج لها حديثاً، كغيرها مما راج كردة فعل على دور النظام الرسمي العربي (الذي لا يمثل العروبة) والتكفيريين (الذين لا يمثلون الإسلام) في تدمير سورية، بل هي فكرة استشراقية قديمة أطلقها آرثر جيفري عام 1938 في كتابه "المفردات الأجنبية للقرآن" المنشور في بريطانيا، زعم فيه أن 80% من الكلمات القرآنية سريانية الأصل! (1)
وفي العام 2000، نشرَ كاتبٌ باسم مستعار هو (كريستوف لكسنبرغ) كتاباً بالألمانية يحمل عنوان (قراءة سريانية آراميّة للقرآن: مساهمة في فكّ شفرة اللغة القرآنيّة) يرى فيه أن القرآن لم يكن في البداية مكتوباً باللغة العربية، بل كُتب بمزيج من العربية والسريانية، ويعتمد في قصصه على (كتاب الفصول)، وهو كتابٌ يتضمن فصولاً من الإنجيل أعدت للتلاوة في القدّاس في الكنائس المسيحية في سورية.
تُرجم كتاب (كريستوف لكسنبرغ) إلى الإنكليزية عام 2007، وحظي بتغطية إعلامية واسعة النطاق في الغرب، غير مألوفة، ومتواصلة، ومستغرَبة بالنسبة لكتاب معقّد في الألسنيات المقارنة، وبات ذلك الكتاب من الأكثر مبيعاً Best Seller، وعُقدت المؤتمرات في الغرب لمناقشته، واستمر التركيز عليه إعلامياً، ومن ذلك مثلاً المقابلة التي أجراها معهد "غوته" الألماني مع المدعو (كريستوف لكسنبرغ) عن كتابه عام 2017 باسمه المزيف! (2)
ما يتبادر للذهن هنا هو أن هناك ماكينة كبيرة في الغرب تحرك الموضوع، وهو ما لا يمكن فصله عن مشاريع تفكيك الوطن العربي ومحو هويته التي تتوافر عنها الكثير من الوثائق والأدلة من أعمال برنار لويس إلى وثيقة "كيفونيم" إلى غيرها.
من ناحية علمية، اعتبر المختصون في اللغات العربية القديمة (المسماة "سامية") أن كتاب (كريستوف لكسنبرغ) غير منهجي وسطحي. ومن ذلك مثلاً ورقة متخصصة باللغة الإنكليزية للدكتور وليد صالح من جامعة تورنتو في كندا التي تفند مزاعم (كريستوف لكسنبرغ) (3)، وورقة متخصصة أخرى وضعها ألفونسه منغانا (4).
كذلك وصفت مراجعة عالم الآثار الهولندي ريتشارد كروس Richard Kroes لكتاب لكسنبرغ بأن عمله يدل على جهله بأدبيات الموضوع، وأن ما يفعله لكسنبرغ إنما هو بدافع تبريري عقائدي (5)، كما أن فرانسوا دو بلوا François de Blois أشار إلى كم الأخطاء النحوية الكبير في عمل لكسنبرغ وإلى محدودية معرفته باللغة السريانية، ووصف عمله بأنه عملٌ هاو ٍ وليس عملاً علمياً رصيناً (6).
بأي لغة كُتب القرآن الكريم إذاً؟ وكيف نفسر وجود كلمات معرّبة فيه؟
كُتبت النسخ الأولى من القرآن الكريم بالخط النبطي والحجازي المبكر ثم الكوفي غير المنقط وغير المحتوي على همزات أو تشكيل مثل الضمة والفتحة والكسرة، وهو ما جعله يبدو قريباً للسريانية القديمة.
لكن فلنتذكر أن الكتابة العربية كانت قد بدأت بالتطور بشكلٍ مستقل قبل الإسلام بقرون، كما نعرف من نقش النمارة (عربي نبطي 328 ميلادي)، وكما نعرف من نقوش أسيس وحران اللجاة وزبد وعين عبده، فليست هناك حاجة لكتابته بالآرامية السريانية.
كلمات سريانية في القرآن الكريم
إذاً المرجح هو أن التأثير الآرامي السرياني في القرآن يعود لسببٍ ديني هو صلة الإسلام بالأديان الموحدة الأخرى، بما أن الرسالة الإسلامية هي استمرارٌ للمسيحية، التي كانت لغتها في بلاد الشام الآرامية السريانية في ذلك الوقت، التي كانت ضرتها الدينية اللغة اليونانية، لا العربية، ومن هنا نفهم وجود كلمات سريانية معربة، أو أنها كلمات وجدت في العربية والسريانية معاً ربما يكون أصلها المشترك أكادياً أو كنعانياً أصلاً. مثلاً:
- أب: في الأصل السرياني "أبَا" ومعناه: ثمرة الفاكهة الناضجة، والفعل في الكلدانية القديمة "أبابا" أي أغلت الأرض وأثمرت. "وفاكهة وأبا" [عبس: 31].
- جنة: في الأصل السرياني: "جَنتا"، ومعناها: الحديقة ذات الشجر. "في جنة عالية" [الحاقة: 22].
- رحمن: في الأصل السرياني: "رحمانا"، وهي إحدى صفات الرب. "بسم الله الرحمن الرحيم" [الفاتحة: 1].
- روح القدس: في الأصل السرياني: "روح قودشا" وهو تعبير سرياني معروف، ومعناه: الروح المقدسة. "إذ أيدتك بروح القدس" [المائدة: 110].
- صر: في الأصل السرياني: من الفعل "صرا" ومعناه قطع، وشق، وخرق. "فصرهن إليك" [البقرة: 260].
كلمات حبشية في القرآن الكريم
لكن هنالك أيضاً كلمات حبشية عديدة في القرآن، والحبشة كانت مسيحية كما نعلم، كما أن اللغات الحبشية متأثرة بشدة باللهجات العربية الجنوبية (اليمنية والعمانية)، مثلاً:
شهر: في الأصل الحبشي: "شهر"، ومعناها: هلال. "ليلة القدر خير من ألف شهر" [القدر: 3].
مشكاة: في الأصل الحبشي: "مشكُات"، ومعناها: الكوة غير النافذة. "مثل نوره كمشكاة" [النور: 35].
قرطاس: في الأصل الحبشي: "قرطاس"، ومعناها: الوعاء الذي تحمل فيه الفاكهة. "ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس" [الأنعام: 7].
ومن الألفاظ الحبشية التي يذكرها السيوطي في "المهذب فيما وقع في القرآن من المعرّب":
شطر: كلمة حبشية الأصل، ومعناها في العربية: تلقاء. "فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام" [البقرة: 149].
منسأة: كلمة حبشية الأصل، ومعناها في العربية: عصا. "إلا دابة الأرض تأكل منسأته" [سبأ: 14].
كلمات إغريقية وفارسية وكنعانية ونبطية في القرآن الكريم
- وهنالك كلمات إغريقية في القرآن (مثل إبليس وأسطورة ومرجان وكافور)، وكلمات لاتينية الأصل في القرآن (مثل قسطاس ودينار وقنطار وصراط)، وقد كانت لغة المسيحية الغربية كما نعلم.
- وهنالك ألفاظٌ فارسية في القرآن (مثل سجيل ومسك وكنز وسرادق وفردوس).
- وبمقدار ما كان هناك سجالٌ ديني مع اليهودية وتأكيدٌ على اعتبار الإسلام استمراراً للرسالات السماوية، هناك ألفاظ عبرية في القرآن، هي كنعانية الأصل على الأرجح، لأن العبرية القديمة ليست إلا لهجة كنعانية فحسب، ومنها:
شيطان: في الأصل العبري: "ساطان"، ومعناه: خصم وعدو. "إن الشيطان لكم عدو" [فاطر:6].
تنّور: في الأصل العبري: "تنّور"، ومعناه: بيت النار. "فإذا جاء أمرنا وفار التنور" [المؤمنون: 27].
ملاك: وينطق "مَلَك" أيضاً وفي الأصل العبري: "ملأك" ومعناه: أحد الأرواح السماوية. "قل يتوفاكم ملك الموت" [السجدة:11].
جدث: في الأصل العبري: "جديش"، ومعناه: قبر. "فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون" [يس: 51].
جهنم: في الأصل العبري: "جي بن هنم"، ومعناه: وادي ابن هنم. وهو موقع العقاب الأبدي بعد الموت. "جهنم يصلونها وبئس القرار" [ابراهيم: 29]
- وأخيراً وليس آخراً، هنالك كلمات نبطية بالقرآن، مثل:
إصر: كلمة نبطية الأصل ومعناها في العربية: عهد. "قال أأقررتم وأخذتهم على ذلكم إصري" [آل عمران: 81].
كوب: والجمع أكواب، وفي الأصل النبطي: "كوبا"، وهي الجرار التي ليست لها عرى. "وأكواب كانت قواريراً" [الإنسان: 15].
قطّ: الكلمة في الأساس نبطية. ومعناها في العربية: كتاب. "وقالوا ربنا عجل لنا قطنا" [ص: 16].
(والمادة أعلاه مصدرها "الألفاظ غير العربية في القرآن" لمحمد سمير وغيره).
ماذا نستنتج من كل هذا إذاً؟
هل يجوز أن نستنتج مما سبق أن القرآن الكريم كُتب بأيٍ من تلك اللغات القديمة، أم الأقرب للمنطق أن نقول إن اللهجات العربيات المتداولة في الوطن العربي كانت في حالة تفاعل شديد فأثرت ببعضها بعضاً، وأن القرآن، كاللغة العربية، كان مرناً في استعداده لاستيعاب المفردات من اللهجات العربية القديمة المختلفة وحتى من اللغات غير العربية بعد تعريبها؟ والعبرة، كما رأينا أعلاه، أن الكثير من تلك الكلمات تدخل قاموسنا بصفتها المعربة.
الأهم من كل ذلك هو أن وجود مفردات سريانية في القرآن لا يجعله سريانياً، كما أن وجود مفردات حبشية لا يجعله حبشياً، ناهيك عن أن السريانية مشتقة من الآرامية المشتقة من اللهجات "السامية" الشمالية الغربية، مما يرجح احتمال وجود كلمات مشتركة بين الآرامية والعربية، والعربية ليست آرامية الأصل، بل تجمع صفاتٍ مشتركةٍ من اللهجات العربية القديمة الغربية والشرقية والجنوبية.
وليحذر من يروجون لمقولة "سريانية القرآن" جيداً من الفخ الاستشراقي الذي نصبه الغرب لهم والذي يعادي سورية كما يعادي كل قُطر عربي، لأنه يعادي العروبة والإسلام، أي يعادينا كأمة في وجودها وفي ثقافتها، فهذه المقولة ليست لنا، ولا حاجة لنا بها، ولكن لو افترضنا جدلاً صدقها، وهي غير صحيحة كما رأينا أعلاه، هل نفهم من ذلك أن دعاتها سوف يدافعون بشراسة من الآن فصاعداً عن القرآن والإسلام بما أنه "صناعة سريانية" من وجهة نظرهم؟
الحواشي:
(1) Arthur Jeffery, The Foreign Vocabulary of the Quran, 1938
(2) http://www.goethe.de/ges/phi/prj/ffs/the/ori/en1184094.htm
(3) http://www.safarmer.com/Indo-Eurasian/Walid_Saleh.pdf
(4) https://www.islamic-awareness.org/quran/text/mss/vowel
(5) https://web.archive.org/.../www.../opinion/Luxenberg.htm
(6) https://www.bismikaallahuma.org/.../review-of-christoph.../ِ