البحرين بعد رحيل خليفة بن سلمان التقارير والمقالات | البحرين بعد رحيل خليفة بن سلمان
تاريخ النشر: 29-11-2020

بقلم: الدكتور راشد الراشد

حقبة سوداء كالحة إتسمت بشدة الإضطهاد وقسوة القمع وإحتكار السلطة
خليفة بن سلمان ونصف قرن من الإستبداد والإستئثار المطلق بالسلطة والموارد والتحكم بالمقدّرات

رئيس الوزراء الأسبق كان يمثل المضمون الأخلاقي للنظام السياسي وما يتسم به من إستبداد وتسلط وإستئثار مطلق بالسلطة وبالموارد ولن يكون رئيس الوزراء الحالي الذي تم تعيينه بالباراشوت ودون أدنى إعتبار لقيمة الشعب خارج سياقات هذا المضمون وستستمر دوامة الظلم والإضطهاد والقهر السياسي بدءاً بغياب الدستور العقدي ومروراً بتغييب الإرادة الشعبية وإنتهاءاً بإعتماد منهج القمع والبطش في التعاطي مع حركة المطالب الشعبية بالإنصاف والعدالة.

النضال السياسي لابد أن يستمر من أجل الكرامة ووضع حد للإستبداد والإستئثار المطلق بالموارد وأن لا تتكرر الحقبة السوداء الكريهة من الظلم القاسي والإضطهاد البشع والقهر السياسي المر الذي عاشه الوطن في ظل هيمنة رجل واحد على السلطة وإحتكار القرار والموارد والسيطرة على المقدرات لخمسة عقود متواصلة من الزمن.

 

وأخيراً رحل خليفة بن سلمان وهو المتربع عنوة على عرش السلطة التنفيذية دون شرعية إنتخاب أو إرادة شعبية، والذي سجل رقماً قياسياً على المستوى الدولي والعالمي كأطول وأقدم رئيس وزراء يهيمن على السلطة التنفيذية لحكومة دولة في الكرة الأرضية لفترة تتجاوز النصف قرن من الزمن، لم تعرف البحرين منذ ما سمي بإستقلالها المزعوم في ١٩٧١ رئيس وزراء آخر غيره.

يطرح رحيل هذا الرجل الذي تربع زهاء النصف قرن على رأس السلطة التنفيذية بالنسبة للبحرين المجتمع والوطن العديد من التساؤلات المهمة في سياق الحياة السياسية في البحرين، فرحيله ليس مجرد رحيل فرد وإنما هو زعيم حقبة سوداء كالحة عاشتها البحرين طيلة الخمسة عقود الماضية إتسمت بضراوة القمع وشراسة ووحشية التعاطي مع المجتمع من أجل الإستفراد والسيطرة المطلقة على مخانق الحكم والموارد والمقدرات. وهي حقبة سوداء مشحونة بالألم والوجع في معظم فتراتها، والتي بلغت في معظم تلك الحقبة السوداء بالقسوة والشدة في الإضطهاد السياسي والظلم، والتي سقط خلالها المئات من الشهداء والمئات من الأحياء الذين يعيشون وهم يحملون في أجسادهم عاهات التعذيب والإعاقة ناهيك عن الآلاف الذين يعيشون حالة الهلع والخوف من كل ما يرتبط بالسلطة والنظام السياسي، ولم تفرغ خلال هذه الحقبة السوداء السجون ولا المنافي القسرية من اعداد كبيرة من ابناء الوطن ممن دفعوا ثمن الإستبداد والإستئثار المطلق بالسلطة.

ولايزال ضحايا فترة حكمه وهيمنته على السلطة التنفيذية وأعدادهم ليست بقليلة معتقلون في غياهب السجون أو منتشرون في المنافي القسرية، ولا حصر لمن دخلوا أقبية السجون وما تعرضوا له من تعذيب وممارسات حاطة بالكرامة الإنسانية بكل معنى، وبما تثبته الحقائق والوقائع على الأرض.

لا نخفي سرًا بأن جموع هائلة من شعب البحرين كانت تتمنى رحيله وهلاكه كأمل كبير بالخلاص من حقبة كان فيها كثير من الوجع والألم، ولو أتيحت الفرصة عند إعلان نبأ وفاته لخرجت الآلاف بالأهازيج ولأمتلأت الشوارع ولأقيمت مجالس الفرح وتوزيع الحلوى ليس شماتة بالموت فهذا قدر الجميع أما تعبيراً عن الفرح والإبتهاج بنهاية هذه الحقبة السوداء من تاريخ سيطرته وتفرده بالسلطة، وهي حقبة ثقيلة مشحونة بالظلم والإضطهاد. ومع كل الأجواء البوليسية القمعية الحاكمة تبادل المجتمع التهاني بمختلف الوسائل لهلاكه غير مأسوف عليه ورحيله.

ويكفي أنه مع ما يعرفه الجميع من الأجواء البوليسية الحاكمة إمتلأت صفحات المواقع الإجتماعي وبشكل عفوي ما يعبر عن حالات الفرح والبهجة برحيله وبما يعكس حجم ما كان يشكله في ضمير الناس والمجتمع. وقد أثار هذا الإبتهاج كما كان متوقعاً سخط النظام الذي أطلق اليد لإستبخاراته وأجهزته الأمنية لملاحقة جميع النشطاء الذين عبروا عن مكنونات دواخلهم تجاه رحيله وأقدم على إعتقال العشرات بصورة متعسفة تعبر عن ردات فعل غير متزنة للسلطة. كما أوعز لأبواقه من المنتفعين والوصوليين الهجوم بالإستعانة بالعنف اللفظي والسباب ومختلف أنواع الشتائم لمن يحاولون التعبير عن إمتعاضهم من حقبة حكمه المرة وما عانوه من قسوة ظلم ووحشية اضطهاد ومعاملة.

وهكذا تحولت مراسم رحيله بشكل فاضح للنظام عندما إشتغل بمطاردة المجتمع لكي لا يحتفل أو يعبر عن مظاهر فرحه بهلاكه ليكون المشهد ليس كما أرادته سلطة القمع والأمر الواقع بأن البحرين حزينة لفقدانها رئيس الوزراء الذي لم يختاره أحد ومارس سلطة الأمر الواقع بقسوة القمع وشدة الإضطهاد لزهاء النصف قرن، وإنما صراع صعب من أجل تجميل الصورة القبيحة.

من المؤكد بأن رحيله بعد خمسة عقود من الإستبداد والإستئثار المطلق بالسلطة ستكون له تداعياته على مجمل الحياة السياسية في البحرين التي لم تعهد رئيس وزراء غيره في تاريخنا السياسي المعاصر ومنذ تأسيس الدولة في العام ١٩٧١م وبما قام به من اضطهاد وقهر سياسي بشع ضد الناس.

ولا شك أن رحيله سيحدث تحولًا ضخمًا على جميع المسارات وحتى في داخل العائلة المهيمنة بفعل الأمر الواقع وليس بفعل الشرعية على مقدرات الأمور، فالمسألة ليست مجرد وفاة شخص وحلول شخص آخر مكانه، فهذه مهمة سهلة إلى أبعد الحدود خاصة في ظل نظام شمولي مطلق، وانما حجم الإرث السياسي الثقيل الذي خلفه مع رحيله وحقبة مثخنة بالأوجاع والآلام الناتجة من القهر والإظهاد والظلم الفاحش.

قد يكون غيابه عن المشهد فرصة من الفرص الكبيرة أمام هذا الوطن المنكوب للخروج من أزماته الخانقة في فترة هيمنته وسيطرته المطلقة على السلطة وأمام حتى النظام نفسه للتغيير إلى الأفضل وبما يجعل هذا الوطن يتنفس شيئًا من الحرية والكرامة والعدل والإنصاف بعد سنوات عجاف من الظلم والإضطهاد وفساد السلطة. لكن الرغبة الجامحة والمفرطة لدى العائلة المغتصبة للسلطة في الهيمنة والإستئثار المطلق بالحكم والموارد والمقدرات تقضي على أي فرصة قائمة للتعايش حتى لو كانت بحجم رمز حقبة الإضطهاد والقهر السياسي والظلم الفاحش.

قناعتنا التامة كما هي قناعة الكثيرين من المهتمين والمتابعين بأن رئيس الوزراء الأسبق خليفة بن سلمان كان يمثل المضمون الأخلاقي للنظام وأن سلوكه ليس مجرد تصرف شخصي يأتي في خارج سياقات النظام الحاكم، وإن التغيير السياسي بعد رحيله من قبل النظام نفسه مجرد وهم لا ينبغي إنتظاره أو توقعه، وإنما يجب مواصلة العمل والنضال الوطني من إجل إنتزاعه كإستحقاقات وليست كمكرمات.

نستغرب أن يستغل البعض من المحسوبين على بعض أطراف المعارضة السياسية حدث الانتقال السياسي (من المقبور الى أي أحد آخر ضمن العائلة المغتصبة للشرعية) للترويج للنظام وسلطة الأمر الواقع بأنها فرصة للتقارب مع النظام مع كل ما قام به من جرائم والتي أقلها إغتصاب السلطة والإمعان في إذلال الشعب وإهانته بلا حدود.

ومن المدهش أن يصف هذا البعض نفسه بأنه يمثل طيفاً من المعارضة ثم يقوم بإضفاء الشرعية (سواء بوعي أو غير إدراك) على النظام الذي قتل أبناء شعبه وأذاقهم المر والعلقم وأهانهم وأذلهم بأبشع صور الإهانة والإذلال. وقد بدأ هذا البعض وللأسف الشديد وبلا حياء أو خجل من التطبيل وكيل المديح الى رئيس الوزراء القادم وتصويره بأنه ملاك الرحمة النازل من السماء بوهم أنه مفتاح الحل أو أن بيده العصا السحرية التي ستعالج جميع أوجاع وطننا المنكوب بالإستبداد والظلم الفاحش. والذي أقل ما يمكن أن يقال فيه بأنه إعلان عن الإفلاس السياسي والأخلاقي والديني.

إن محاولة تحميل رئيس الوزراء الأسبق وكأنه البطة السوداء جملة معاناة وجميع مآسي وأوجاع الوطن طيلة العقود الخمسة الماضية، والتلميح بان القادم الجديد من السلطة (غير الشرعية) سيكون مختلفاً ومنفتحاً، ينطوي على سذاجة فادحة وقصر نظر عميق، تكذبه تجربة أكثر من قرنين من الزمن في فشل كل وجميع محاولات التعايش مع هذا النظام.
كان من المرجح أن يبدأ رئيس الوزراء الجديد بخطاب سياسي يشتري فيه ثقة الناس والمجتمع، يهدف إلى تليين العواطف، يعقبها بعد ذلك بحركات شعبوية ليشتري بها مزيد من الإطمئنان والثقة التي يحتاجها لإدارة السلطة من قبيل زيارة منه الى شخصية روحية او حتى اقامة مشروع ديني كما سيعمد إلى إتخاذ بعض الخطوات السياسية للتنفيس عن الإحتقان كإعادة إصدار صحيفة الوسط او الافراج عن بعض سجناء الرأي والضمير وكذلك السماح لبعض المبعدين والمنفيين بالعودة والرجوع إلى وطنهم كعربونات لترميم وإصلاح علاقة مؤسسة الحكم بالمجتمع، وهي خطوات ضرورية لرئيس الوزراء الجديد لتلميع صورته في بداية مشواره على رأس السلطة التنفيذية وليتمكن من إدارة السلطة بلا منغصات أو مشاكل، لكن أعفته تصريحات بعض المغفلين من المحسوبين على بعض أطراف المعارضة عن أداء حتى هذه المهمة التكتيكية، وأقنعته بأنه ليس بحاجة إليها البتة وليس بحاجة إلى التملق إلى الناس والمجتمع طالما أن معارضيهم قاموا بالمهمة على الوجه الأكمل ورسموا ونحتوا له في خطابهم السياسي صورة وردية مخملية جميلة.
إن أحد أهم أسباب تهافت خطاب بعض المحسوبين على بعض أطياف المعارضة السياسية وإنحداره إلى هذا الحضيض الذي وصل إلى حد محاولة تلميع صورة أحد أركان النظام السياسي الديكتاتوري المغتصب للشرعية والذي يمثل أحد أعمدة وأركان ما تعرضنا له كشعب وأمة وبشر من أضطهاد وظلم وقهر سياسي هو غياب المشروع الوطني الجاد الذي يضع على سلم أهدافه وأولوياته الكرامة والحقوق السياسية الكاملة غير المنقوصة.

لابد من التأكيد وبالخط العريض بأن مشكلتنا في البحرين ليست شخصية مع فرد وانما هي مع نظام سياسي كامل يحمل ثقافة السيطرة والهيمنة المطلقة على السلطة والموارد والمقدرات ويعتمد على القوة والقمع المفرط كأداة ووسيلة وحيدة للسيطرة والتسلط، ويفتقد الشرعية ويتسم بأقصى درجة من الإستبداد والتسلط، وما نحتاجه كأمة وشعب هو إستمرار النضال الوطني لوضع حد للإستبداد وعوامله ووفق مبادىء الكرامة والإستحقاقات الوطنية لا وفق مبادىء الإستسلام للأمر الواقع وثقافة النفاق وإستجداء المكرمات.. وهنا لابد من الوقوف أمام أي محاولة لتطويع الإرادة ومنع أي محاولة لإسباغ أي نوع من الشرعية على نظام مستبد وسلطة مارست ضدنا أبشع أنواع وصنوف الظلم والإضطهاد.


تنويه | المقالات المنشورة في الموقع تمثل رأي صاحبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي أسرة الموقع

جميع الحقوق محفوظة لموقع جامعة الأمة العربية © 2021 - 2013